بعضهم وصف المتظاهرين بالرعاع وأول من استخدموا تعبير«المندسين»
بإمساك العصا من المنتصف و الاحتجاب .. هكذا عالجت الصحافة أحداث ثورة 1919
" القبض على سعد باشا زغلول وثلاثة من الوجهاء وإبعادهم إلى مالطة".. ذلك كان أحد عناوين الصفحة الثانية من جريدة الأهرام قبل نحو 100 عام بعد مرور نحو يومين من اشتعال التظاهرات في ربوع مصر.
اختيار صحيفة الأهرام لإفراد مساحة صغيرة من صفحتها الثانية لأهم حدث في تاريخ مصر آنذاك، يطرح تساؤلات معقولة حول معالجة الصحافة المصرية بكافة اتجاهاتها لأحداث ثورة 19 في ظل الرقابة التي فرضتها سلطات الاحتلال الإنجليزي على الصحف.
لم يتعد عدد الصحف المصرية إبان ثورة 1919 الـ 19 صحيفة، تمثل 60% منها ملكية كاملة للمصريين، و40% منها مملوكة للشوام، فحاول بعضها الإمساك بالعصا من المنتصف، بينما اتخذ آخرون صف الاحتلال الإنجليزي، وفريق ثالث آيد الثورة قلبا وقالبا.
لذلك تقول الدكتورة عواطف عبد الرحمن أستاذة الصحافة بكلية الإعلام إن الصحف المصرية سجلت بكافة اتجاهاتها أحداث الثورة بما حوتها من اختلافات وانقسامات وأحداث، فلم تستطع أية جهة أخرى بخلاف الصحف تسجيل أحداث 1919 كما سجلتها الصحافة المصرية.
وتضيف الدكتورة عواطف خلال ندوة بعنوان "ثورة 1919 – بين الأدب والصحافة" في يناير الماضي أن الصحافة ارتبطت ارتباطاً وثيقاً بثورة 1919، وتعتبر الصحافة المصرية هي المرجع الرئيسي لأحداث الثورة.
أعمال شغب
بالعودة للوراء 100 عام، تحديدا صبيحة 10 مارس، نشرت جريدة الوطن التي وصفت أحداث الثورة بالشغب ووصفت المتظاهرين بالرعاع تقريرا قالت فيه:"إن بعضا من طلبة المدارس والعاطلين عن العمل قاموا بحركة شغب"، بحسب ما أورده محمد توفيق في كتابه حب وحرب وحبر.
وأضافت الوطن: "فطافوا بعض الأحياء واعتدوا على بعض المحال التجارية وعطلوا سير الترام في بعض الطرق فأوفدت حكمدارية العاصمة نفرا كبيرا من رجال بلوك الخفر السواري والبيادة فشتتوا شمل المتجمهرين وبذلك عادت السكينة إلى نصابها".
وفي 11 مارس، نشرت الوطن أيضا مقالا بعنوان: ليقلع الشباب عن هذا التعصب قالت فيه:" إن حوادث العاصمة خلت من الحكمة و التبصر و إن مصر إن قدر لها أن تنال أمانيها العادلة فلن تنالها عن طريق الحركات العنيفة على الإطلاق".
المندسين
واتفقت كل من المحروسة والأفكار والأهرام مع جريدة الوطن في كون هناك مندسين بين المتظاهرين السلمين الذين سعوا للتخريب والسلب والنهب، إذ نشرت جريدة المحروسة خبرا بعنوان " مظاهرات الطلبة" جاء فيه:"إن هذه المظاهرات ظلت مقرونة بالنظام و السكينة ولكن فريقا من غلمان الأزقة والرعاع اندسوا بين مواكب الطلبة".
لكن الأهرام حاولت الإمساك العصا من المنتصف ،في 11 مارس تصدر الصفحة الأولى من الأهرام مقالا بعنوان : مظاهرات الطلبة المصريين ومنكرات سواهم، نشرت وصف الإنجليز أحداث الثورة بأنها تخريب والثوار بأنهم من الرعاع وفي نفس الوقت دافعت الأهرام عن الطلبة الذين خرجوا للتظاهر .
وقالت الجريدة: "إن غلمان الأزقة و الرعاع انتهزوا فرصة المظاهرة، ومدوا يد الاعتداء إلى الترامواي أما اللصوص فهؤلاء أمرهم معروف في كل يوم في قطارات الترامواي، والشوارع، والمخازن، وفي دفتر البوليس كل يوم جدول طويل بأعمال الخطف والسلب و النهب".
كما أبرزت الأهرام خبر القبض على 25 ممن وصفتهم آنذاك بالرعاع واللصوص على حد تعبيرها من أبناء الأحياء الشعبية زينهم، وعشش الساقية، ودرب الساقية.
كن مع الثورة
على النقيض تماما، أخذت جريدة مصر تنشر أخبار الثورة في الأقاليم وتتابع عن كثب ما يجرى في مظاهرات دمنهور وطنطا والإسكندرية، وغيرها من المدن ولذلك حذفت الرقابة ثلثي العمود الرابع بالصفحة الثانية وظهرت المساحة بيضاء أمام القراء في 11 مارس.
وفي اليوم ذاته خصص جريدة الأخبار نصف مساحتها الأولى لأخبار الثورة وحذفت الرقابة نصف الأعمدة الأول والثاني والثالث والرابع وبدا للقراء أن الجريدة تؤيد الثورة قلبا وقالبا واتخذت صحيفتا صحيفتا الأهالي ووادي النيل نقس موقف صحيفة الأخبار ووصفتا التظاهرات بأنها سلمية.
ظهرت صحيفة المنبر في 12 مارس بها مساحات كثيرة بيضاء تدل على تدخل الرقيب بسبب تأييد الجريدة للثورة، فيما كتبت جريدة الأفكار عن أول مظاهرة نسائية: "تلقت أقسام البوليس إشارة تليفونية تفيد أنه علم أن بعض السيدات عازمات على القيام بمظاهرة سلمية فلا يجب التعرض لهن مطلقا".
وبشكل طريف، نشرت جريدة الأهرام في 17 مارس: " أن مواكب المظاهرات مرت بجوار مبناها وقام المتظاهرين بتحية الجريدة على مواقفها والدعاء للعاملين بها وأبرزت الجريدة المظاهرة النسائية تحت عنوان : "مظاهرة السيدات".
اعتذار الأهرام
بعد الاحتلال بيان الاحتلال الذي وصف الثوار بالرعاع في 18 مارس خصصت جريدة الأهرام العمود الأول من الصفحة الثانية لأخبار الثورة واختارت له عنوان (الأهرام.. جريدة مصرية لكل المصريين) كأن الجريدة تؤكد أنها كانت مرغمة على ما تفعل وأنها تؤيد الثورة رغم أنها نشرت بيانات الاحتلال.
في 20 مارس، ظهرت أغلب الصحف وبها مساحات بيضاء في أغلب صفحاتها وأرسلت القيادة العسكرية للاحتلال بلاغات إلى الصحف تصف فيها المتظاهرين بالرعاع والغوغاء والمشاغبين ونشرت تلك البلاغات صحف الأمة والوطن والمقطم التابعة للاحتلال، بحسب كتاب حب وحرب وحبر.
ورغم أن الجريدة اعتذرت عن ميوعة موقفها إلا أن مراسل الأهرم كتب في 28 مارس يحذر من خطورة تحرك الفلاحين في الشرقية تقريرا حذر فيه من خطورة تحرك الفلاحين وأن عمل الالرعاع في المدن ينتهي بانتهاء المظاهرة أما الحاصل في البلاد فعليا فهو تأليف عصابات منتظمة للنهب نهارا بعمل محرضين سيئى القصد.
المساحات البيضاء
وفي 1 إبريل حذف الرقيب المقال الافتتاحي لجريدة الأفكار الذي كتبه رئيس تحريرها سيد علي في الصفحة الأولى، ونفس الشيء تكرر مع صحيفة الأهالى ورئيس تحريرها عبد القادر حمزة، إذ تم حذف أغلب الأخبار والمقالات في الجريدة وبدا أغلب مساحات الجريدة بيضاء.
لذلك أعلنت صحيفتا المنبر والأفكار الاحتجاب يوم 3 إبريل واستمرت المنبر في احتجابها ثلاثة أيام متواصلة احتجاجا على سياسات سلطات الاحتلال تجاه الصحف.
وفي 3 إبريل، نشرت جريدة الأهرام خبرا يقول:"إن جمهورا كبيرا من موظفي الحكومة في القاهرة انقطعوا عن العمل أمس ونذكر منهم موظفي وزارات الحربية والمعارف والزراعة وتضامنا معهم تعلن الأهرام احتجابها غدا لاتحاد عواطفها بعواطف الجمهور.
الاحتجاب
وكرد فعل على احتجاب الصحف أصدرت سلطات الاحتلال العسكرية أمرا بتعطيل صحيفتي "مص" و"المنبر" وإغلاق مطبعتيهما وطالبت بإقالة رئيسي تحرير الصحيفتين فتقدم عبد الحميد حمدي باستقالته من رئاسة تحرير المنبر واستقالة ميخائيل بشارة من رئاسة تحرير جريدة مصر.
ورغم سيطرة الاحتلال البريطاني على الصحف إلا أن المعتمد البريطاني الجنرال اللنبي أرسل في 4 إبريل رسالة إلى السلطان أحمد فؤاد جاء فيها: " إن الصحافة المتطرفة التي تتحدث باسم المتطرفين تؤثر عليهم و تزداد كل يوم في نغمتها التي تتسم بالعنف".
وبعد يومين نشرت صحيفة وادي النيل حوارا أجراه الصحفي محمود أبو الفتح مع الجنرال اللنبي وسأله أبو الفتح عن رأيه في مطالب المصريين قرد الجنرال عليه قائلا: " لم يتقدم المصريون بمطالب إلينا ول يصلني سوى تقرير الوطنين -سعد ورفاقه -وسأقوم بفحص التقرير عندما تعود السكينة للبلاد".
في 7 إبريل نشرت الأهرام المصريين بالإفراج عن سعد زغلول من خلال تصريح المندوب السامي البريطاني والسماح لهم بالسفر لبدء مفاوضات الجلاء.
صور الثورة
ورغم أن جريدة اللطائف المصورة تأخرت في تغطيتها أحداث الثورة حتى شهر إبريل، إلا أنها تميزت في التغطية من خلال صورها التي أرخت للثورة، ففي 14 أبريل تصدرت صورة سعد باشا زغلول الصفحة الأولى للمجلة، ومعها تعليق حول الاحتفالات التى عمت شوارع القاهرة وباقى المدن ابتهاجا بالإفراج عن سعد باشا زغلول والسماح له ورفاقه بمغادرة البلاد لعرض قضية الاستقلال أمام مؤتمر باريس
وكان هذا نصه « لا يسع المنصف الذى شهد حفلات عاصمة القطر العظيمة فى هذه الأيام الأولى من الأسبوع الماضى ومهرجانات الفرح والابتهاج التى اقيمت فى جميع أنحائها واشترك فيها جميع طبقات الأمة المصرية رجالا وأولادا ونساء إلا الاعتراف بأن سعد اليوم رجل الأمة.
فى أعداد لاحقة تؤرخ بــ 21 أبريل 1919 وحتى بدايات مايو من العام ذاته، استعرضت "الطائف" مجموعة من الصور التى ترصد وقائع الاحتفالات التى عمت البلاد بالإفراج عن سعد باشا ورفاقه، قبيل النفى إلى مالطا.
ففى عدد 28 أبريل، خرجت "اللطائف" بصور تعكس تأخى الهلال مع الصليب المصريين سواء فوق الأعلام التى علت رؤوس المتظاهرين أو فى قلوب المتظاهرين أنفسهم.
وقالت المجلة تعليقا على هذه الصور: "بعثت نشوة الابتهاج والفرح بالإفراج عن أقطاب الأمة الأربعة وإباحة السفر للجميع روحا سامية فى نفوس القوم لم يعهد لها مثيل فتناسى الخلافات والأحزاب التى كانت تفرقهم وأقاموا لهم دينا واحدا هو دين الله تعالى الذى أمر به فى كتابه الطاهر ونعنى به دين المحبة"
الصحافة تحت مقصلة الاحتلال
ورصدت أيضا اللطائف خروج مظاهرات سيدات مصر بصور معبرة وتحت عنوان «المرأة المصرية فى ثوبها الجديد»، وتحت هذا العنوان قالت: "يقولون المرأة كمرآة تتجلى فيها أسمى العواطف.. هذه حال المرأة يثبتها الواقع، وما كان من المظاهر الشريفة التى رأيناها تتجلى فى أمرأتنا المصرية يوم الفرح العظيم إذا هرعت السيدات والفتيات ليشاركن الرجل".
ورغم الإفراج عن سعد زغلول إلا أن تعسف سلطات الاحتلال ضد الصحف استمر، ففي 18 ديسمبر، أصدرت إدارة المطبوعات بيانا للصحف تنذرها بالتعطيل إذا نشرت شيئا يثير شعور العامة ضد الحكومة أوالإنجليز ولم يصدق عليه الرقيب، فاجتمع أصحاب الصحف واحتجوا على القرار لكنهم لم يستطيعوا أن النشر في صحفهم عن هذا الاجتماع ولا الاحتجاج ولم يستطيعوا مخالفة القرار.