أسباب ارتفاع الجنيه أمام الدولار.. وهؤلاء أكبر الخاسرين
يستغرب البعض، من مواصلة الجنيه الارتفاع أمام الدولار الأمريكي، رغم عدم وضوح أسباب هذه الظاهرة حتى الآن، إذ لم تزل الصادرات على حالها، ومازالت السياحة تعاني، فمن أين يأتي هذا الارتفاع؟.
الجنيه واصل مساره الصعودي الذي بدأه العام الماضي، وارتفع نحو 13% تقريبا أمام الدولار منذ بداية عام 2019، عندما كان سعر صرف العملة الأمريكية حينها 17.85 جنيه.
وفي عام 2020 فقط، عزز الجنيه مكاسبه بـ 44 قرشا أمام الدولار ليسجل الدولار أمس 15.56 جنيه، متراجعا قرشين إضافيين أمام الجنيه مقارنة بأول أمس، وفقا لبيانات البنك المركزي.
أسباب ارتفاع الجنيه؟
أجمع العديد من الخبراء الاقتصاديين والمؤسسات البحثية وبنوك الاستثمار على عدة أسباب وراء الارتفاع، كالتالي:
«التدفقات الأجنبية المتزايدة على أدوات الدين الحكومية (أو تجارة الفائدة).. والارتفاع الكبير في تحويلات المصريين من الخارج.. وانتعاش إيرادات قطاع السياحة.
أيضًا من بين الأسباب: الانحسار الكبير لظاهرة الدولرة منذ بداية عام 2017، مع تراجع الشركات والمواطنين عن اكتناز الدولار بعد التعويم، وسط تشديد ضوابط الاستيراد وارتفاع العوائد على الودائع بالعملة المحلية في البنوك.
كلمة السر هي الأموال الساخنة، وهي استثمارات الأجانب في أدوات الدين الحكومية، حسبما يرى كل من الخبير الاقتصادي هاني توفيق، ورئيس وحدة بحوث الاقتصاد الكلي بالمجموعة المالية هيرميس محمد أبو باشا.
ويأتي جانب كبير من تلك الاستثمارات من تجار الفائدة، وهم من يقترضون من الخارج بأسعار فائدة منخفضة، ثم يقرضون الحكومة المصرية في عطاءات أذون وسندات الخزانة ذات العائد المرتفع. وتضاعفت تلك الاستثمارات منذ نهاية 2018 إلى 24 مليار دولار، وجاء ذلك في وقت شهد تراجع الطلب المحلي على الدولار، وانحسار اكتناز الدولار بين المصريين وتراجع الاعتماد عليه كملاذ آمن للادخار.
ويشير توفيق إلى أن التدفقات الدولارية شهدت زيادات ملحوظة منذ قرار البنك المركزي بإلغاء آلية تحويل الأرباح في ديسمبر 2018، وشمل القرار استثمارات الأجانب الجديدة في أذون وسندات الخزانة المحلية أو الأسهم المقيدة بالبورصة المصرية، وأصبح تلك الاستثمارات تتم دخولا وخروجا من خلال سوق الصرف بين البنوك (الإنتربنك).
ورأى محللون آنذاك أن تلك الآلية كانت تمنع العملة المحلية من الوصول إلى كامل إمكاناتها، وكانت سببا رئيسيا في بخس قيمة الجنيه.
تحول نحو سندات الخزانة متوسطة وطويلة الأجل: ولفت فخري الفقي المستشار السابق في صندوق النقد الدولي وعضو مجلس إدارة البنك المركزي سابقا إلى أن المستثمرين الأجانب بدأوا – مع بدء دورة التيسير النقدي – في توجيه استثماراتهم بنسبة أكبر إلى أدوات الدين طويلة الأجل.
ويعني هذا من وجهة نظر الفقي، أن المستثمرين لديهم الرغبة في الاستمرار في السوق لفترة أطول وتحقيق عوائد تتمثل في الفائدة على سنداتهم وفرق سعر العملة.
وأضاف أن "توقعات هؤلاء المستثمرين مبنية على أسس علمية وتحليلات اقتصادية، هم يتابعون إشادات المؤسسات الدولية ومؤسسات التصنيف الائتماني ومؤشرات الاقتصاد الكلي، والأنباء عن مفاوضات الحكومة مع صندوق النقد الدولي لإبرام اتفاق جديد لمواصلة الإصلاحات الهيكلية، وهو ما يعزز الثقة لديهم في الاقتصاد ومسار النمو".
وحتى بعد تخفيضات الفائدة، لا تزال أدوات الدين الحكومية المصرية جذابة، في عالم تنخفض فيه أسعار الفائدة لتصل إلى السالب أحيانا. انظر، على سبيل المثال، إلى عنوان تقرير وكالة بلومبرج الأسبوع الماضي: السوق الأفضل لتجارة الفائدة عالميا تزدهر في مصر مع ثبات أسعار الفائدة، بل وتتزايد عمليات شراء أدوات الدين الحكومية من جانب المستثمرين الأجانب الذين يتطلعون للحفاظ على العائد، وسط التوقعات بخفض أسعار الفائدة في المستقبل.
واستبعد أبو بكر إمام رئيس قطاع البحوث لدى سيجما كابيتال، أن تتراجع شهية الأجانب على الديون المصرية رغم تلميح لجنة السياسة النقدية عقب اجتماعها الأخير إلى مواصلة سياسة التيسير النقدي.
وعزا إمام وجهة نظره إلى استقرار الأوضاع السياسية والاقتصادية مقارنة بأسواق أخرى مثل تركيا ونيجيريا والأرجنتين. وتابع: "قبل 2011 كانت معدلات الفائدة تتراوح بين 7% و9% وكان لدينا مستثمرين أجانب في أذون وسندات الخزانة … الأجانب لن يخرجوا مع الخفض المحدود المحتمل للفائدة في اجتماع الغد بواقع 50 إلى 100 نقطة أساس لأنهم سيعوضون تراجع العائد من الفائدة من فرق سعر الصرف".
واتفق هاني جنينة رئيس قطاع البحوث في برايم القابضة مع الرأي السابق، مؤكدا أن العائد في مصر لا يزال مرتفعا مقارنة بالأسواق الناشئة الأخرى مثل تركيا والمكسيك والأرجنتين ونيجيريا وأوكرانيا وروسيا والتي خفضت أسعار الفائدة بنسب متفاوتة منذ بداية العام.
هل البنك المركزي يدعم الجنيه؟ نفى الفقي المزاعم حول تدخل البنك المركزي في سوق الصرف لتعزيز قيمة الجنيه أمام الدولار. وشدد على أن "سوق الصرف يخضع لقوى العرض والطلب منذ تعويم الجنيه في نوفمبر 2016، وهو ما دفع العملة المحلية حينها لتلامس مستوى 20 جنيها للدولار بدلا من الاستقرار في نطاق السعر العادل في حدود 13 إلى 14 جنيها، وذلك جراء شح المعروض من العملة الصعبة إلى جانب المضاربات والتوقعات آنذاك وسط طلب كبير ومتراكم على الدولار".
ويرى الفقى أن الدعم الحقيقي للجنيه سببه تعافي المحركات الخمسة الأساسية للنقد الأجنبي؛ وهي الصادرات والسياحة وتحويلات المصريين بالخارج والاستثمار الأجنبي المباشر وقناة السويس، وكلها مصادر غير مولدة للديون، بالإضافة إلى المحرك السادس المولد للديون المتمثل في استثمارات الأجانب في المحافظ المالية.
الصادرات ارتفعت من 10 مليارات دولار منذ بدء برنامج الإصلاح الاقتصادي في أواخر عام 2016 إلى 29 مليار دولار.
إيرادات السياحة قفزت إلى 12.6 مليار دولار في العام المالي الماضي، بارتفاع قدره 260% مقارنة بـ 3.5 مليار دولار عقب حادث الطائرة الروسية في 2015.
التحويلات أيضا قفزت إلى نحو 26.5 مليار دولار سنويا عقب التعويم، واستقرت عند هذا المستوى العام المالي الماضي.
قناة السويس حققت أعلى إيرادات في تاريخها خلال العام المالي الماضي بواقع 5.9 مليار دولار.
وبدأت الاستثمارات الأجنبية المباشرة في التعافي بدءا من النصف الثاني من 2019.
بلغ إجمالي تلك التدفقات الدولارية 95 مليار دولار العام الماضي، صعودا من 82 مليار دولار في 2018 و71 مليار دولار في 2017، وفقا للفقي.
ومنذ بداية عام 2020 تلقت مصر تدفقات دولارية من عدد من تلك المصادر تجاوزت 12 مليار دولار، حسبما صرح مسؤول في المركزي لوكالة أنباء الشرق الأوسط يوم الأحد. وقال المسؤول إن تلك التدفقات تعكس جاذبية السوق المصرية للصناديق والمؤسسات المالية الدولية بالرغم من الأوضاع الإقليمية المتوترة.
مؤشر قياس الضغط على سوق الصرف (EMPI) يعكس الزيادة الحالية في قيمة الجنيه، حسبما تقول رضوى السويفي رئيسة قطاع البحوث في بنك الاستثمار فاروس. وتشير السويفي إلى أن قراءة المؤشر تظهر تراجع الضغوط على سوق الصرف.
ويقيس المؤشر الضغوط الواقعة على سوق الصرف بقياس عدة أساسيات، من بينها التدفقات الدولارية والمعروض النقدي وحجم الاحتياطي الأجنبي وحركة الجنيه تاريخيا. و"عقب التعويم انحسرت الضغوط على سوق الصرف، لكن العملة ظلت مستقرة، لكن المؤشر حاليا وسعر الصرف يتحركان معا وبشكل منطقي"، حسب قولها.
من المستفيد ومن المتضرر؟ يرى جنينة أن قوة الجنيه قد "تؤثر تدريجيا على التنافسية في أسواق التصدير على المدى المتوسط، خاصة إذا استمر الفارق بين معدلات التضخم في مصر وفي الولايات المتحدة عند مستوياته الحالية".
وقالت السويفي إن كافة القطاعات التصديرية متضررة من تلك القفزة في قيمة الجنيه أمام الدولار، خاصة أن الصادرات تكافح في سبيل التعافي عقب سنوات من التدهور جراء أزمة العملة قبل التعويم، فضلا عن المشكلات التي تواجه القطاع الصناعي.
وأضافت "إذا نظرت إلى الشركات المصدرة المدرجة في البورصة المصرية ستجد أن نسبة الصادرات إلى إجمالي المبيعات لم تتغير تقريبا". على الجانب الآخر، يرى الفقي أن الشركات المصدرة التي تعتمد على استيراد المواد الخام للتصنيع لن تتضرر بنفس القدر، لأن ارتفاع الجنيه يعني أنها تقوم بشراء مدخلات الإنتاج والخامات بتكلفة أقل وهو ما يوازن التكاليف إلى حد ما.
ويعتقد الفقي أنه يتعين على الدولة خفض أسعار الغاز للمصانع كثيفة الاستهلاك للتخفيف إلى حد ما من ارتفاع تكاليف إنتاجها كي تصبح أكثر قدرة على المنافسة بالأسواق الخارجية.
القطاعات الأكثر تضررا: يتصدر قائمة الخاسرين أو المتضررين من صعود الجنيه أمام العملة الأمريكية أسهم شركات البتروكيماويات والتكرير والأسمدة والحديد والتي تعتمد على تصدير نسبة كبيرة من إنتاجها، وفقا للسويفي.
ويعمق من خسائر تلك القطاعات تزامن ارتفاع سعر الجنيه مع تراجع أسعار النفط والسلع الأولية في الأسواق العالمية.
ويرى إمام أن القطاعات التصديرية خاصة الكيماويات بما في ذلك الأسمدة والبتروكيماويات ستكون في مقدمة الخاسرين من تدهور الدولار أمام العملة المحلية، في حين أن قطاع الأدوية يتصدر قائمة المستفيدين نظرا لاعتماد الصناعة على استيراد الخامات وبالتالي سيستفيد من تراجع الدولار.
قد تواجه الصادرات الزراعية صعوبات إذا واصلت العملة المحلية مسارها الحالي وكسر الدولار حاجز 14 جنيها، حسبما صرح شريف الجبلي رئيس الشعبة العامة للمصدرين بالاتحاد العام للغرف التجارية. واتفق مع وجهة النظر السابقة حسام علوان، عضو الشعبة العامة للمصدرين فى الاتحاد العام للغرف التجارية، لكنه يرى أن نقطة التحول ستكون بهبوط الدولار دون مستوى 15 جنيها، وهو ما يتوقع حدوثه قبل نهاية العام الجاري.
وأكد علوان أن استمرار تدهور الدولار له تأثيرات سلبية على تنافسية المنتجات المصرية بالأسواق الخارجية، لافتا إلى أن قطاع الحاصلات الزراعية بدأ يشهد تراجعا في أحجام صادراته.
وتابع: "حتى الآن التأثير محدود، إذ يعوض انخفاض تكلفة استيراد مواد التغليف والتعبئة ونولون الشحن بفضل تراجع الدولار فرق التكلفة بالنسبة للمصدرين.
ونوه إلى أن شعبة المصدرين تعكف حاليا على إعداد ورقة عمل لعرضها على الحكومة لدراسة خطة التعامل في ملف الصادرات حال مواصلة الدولار في التدهور أمام الجنيه.
ولفت الجبلي أن خفض أسعار الغاز للمصانع وصرف المساندات التصديرية من شأنه تقليل التكلفة على المصنعين وتمكينهم من الحفاظ على تنافسية صادراتهم.
وأضاف أن هناك فرصة أمام الصادرات المصرية لدخول أسواق جديدة بدلا من الصين خاصة في أفريقيا، وهو ما قد يعوض الضرر المحتمل من تراجع التنافسية في بعض الأسواق حاليا.
ولكن السياحة لم تتأثر سلبا حتى الوقت الراهن، إذ لا يزال السياح ينظرون إلى مصر كوجهة منخفضة التكاليف، وفقا للسويفي.