مسجد "دولة الخلافة ".. نقطة مفصلية في معركة الموصل
قبل أسبوع تقدمت القوات العراقية داخل المدينة القديمة، وسط الجانب الغربي للموصل (شمال)، وبات المقاتلون يشاهدون بأعينهم منارة "الحدباء" الأثرية التي تتوسط مسجد النوري الكبير، وظنوا لبعض الوقت أنه بات في متناولهم، لكن الأمر لم يسر على ذلك النحو.
و يحمل المسجد رمزية كبيرة لتنظيم "داعش" الارهابي، حيث أعلن زعيمه "أبو بكر البغدادي"، في 29 يونيو 2014، قيام "دولة الخلافة" من على منبره في صلاة الجمعة، وسط إجراءات مشددة فرضها المسلحون، تمثلت بقطع الطرقات كافة وانتشار مئات القناصة على أسطح المبانِ وقطع شبكات الاتصال الخاصة بالأجهزة الخلوية والانترنت.
وقال البغدادي، إن "الخلافة" بدأت وأنها ستمتد من المحيط إلى الخليج، قبل أن تغزو بقية أرجاء المعمورة، لكن بعد عامين ونصف العام باتت القوات العراقية على مسافة 700 متر من المسجد ، بحسب وكالة "الأناضول" التركية .
ويقول العميد الركن فراس نوار الذهبي، في قوات جهاز الشرطة الاتحادية التابعة للداخلية، إن "رؤية المقاتلين لمنارة الحدباء بعينهم المجردة يزيدهم إصرارا وعزيمة على القتال للوصول الى هذا المكان، وإزالة أكبر راية للتنظيم منه، والإعلان وبشكل رسمي أن الموصل مدينة عراقية بعد رفع علم البلاد فوقه".
لكن الذهبي، يقر في الوقت نفسه بأن "حدة المعارك تزداد يوما بعد آخر، وتصبح أكثر تعقيدا وصعوبة على القوات العراقية بسبب الطبيعة الجغرافية لهذه المنطقة؛ متمثلة بضيق شوارعها، وأزقتها الملتوية، وقدم بنائها، واكتظاظها بالسكان".
وأوضح الذهبي أن "التنظيم يقاتل بضراوة، وأغلب مقاتليه يفضلون الموت في المواقع التي يتواجدون بها على الانسحاب منها لأنهم يعرفون أن مصيرهم سيكون الموت، سواء كان ذلك عاجلا أم آجلا".
كما أقر الضابط العراقي بأن "قوات جهاز الشرطة الاتحادية لا تملك الكثير من الخبرة في حسم المعارك التي هي من نوع حرب شوارع كونها لم تتلقَ تدريبات خاصة لذلك الغرض، لكنها تبذل كل ما بوسعها من أجل تحقيق هدفها مع القوات المشتركة الأخرى؛ وهو الوصول إلى جامع النوري، وتحريره بأقل الخسائر البشرية والمادية".
واختتم الذهبي، حديثه، بأن "القوات قدمت في جانب الموصل الغربي مئات الشهداء والجرحى إلا أن ذلك لم يثنِ عزيمتها ويكسر شوكتها ويرغمها على التراجع، بل العكس زادها قوة وحثها على مواصلة المشوار الذي بدأته وعنوانه: تحرير الموصل بالكامل من شمالها إلى جنوبها ومن شرقها الى غربها".
"سيلفي" أمام المنارة الحدباء
والتقاط صورة "سليفي" النصر من أمام مسجد النوري الذي اعتلى البغدادي منبره وأعلن منه قيام "الخلافة"، هو كل ما يحلم به الملازم قسورة المعماري، في قوات جهاز الشرطة الاتحادية.
وتحدث "المعماري" ، وهو يجلس في إحدى العربات العسكرية ويده اليمنى على مقودها، والأخرى يحمل بها سيجارته قائلا، "أقاتل في الموصل ضد داعش، منذ أربعة أشهر، وكل يوم أتمنى أن لا أموت ليس خوفا من الموت أو حبا بالحياة، بل من أجل الوصول إلى جامع النوري، وإسقاط راية التنظيم، وأخذ الصور التذكارية بهذا الانتصار الثمين".
وأضاف، "أنا أحتفظ في هاتفي بجميع صور زملائي المقاتلين الذي استشهدوا وهم يخوضون معارك ضد التنظيم وكان هدفهم الوصول إلى موقع إعلان قيام الدولة، إلا أن الموت كان أسرع من تحقيق هدفهم" ، وفقًا لـ "الأناضول".
المعماري، وقبل أن يغلق باب العربة العسكرية وجه نظره إلى منارة الحدباء (مائلة مثل برج بيزا في إيطاليا) وتوقف عن الكلام لبضع ثواني، ثم أشار بسبابة يده اليسرى، وقال إنها "قريبة جدا، وأكثر مما أتصور، والأيام القليلة القادمة من عمري سوف يتحقق حلمي بالوصول إليها"، ليغلق بعد هذه الكلمات باب سيارته للالتحاق بزملائه في القتال.
تجدر الإشارة الى ان "الجامع النوري" أو "الجامع الكبير" أو "جامع النوري الكبير" هو من مساجد العراق التاريخية (شيد في 668هـ/ 1172م) ويقع في وسط الجانب الغربي للموصل، وتسمى المنطقة المحيطة به بمحلة الجامع الكبير، ويشتهر الجامع بمنارتهِ المحدَّبة نحو الشرق، وهي الجزء الوحيد المتبقي في مكانه من البناء الأصلي.
الخبير في شؤون الجماعات المسلحة والمحلل السياسي الدكتور عبد القاهر مراد البيضاني، أوضح أن "جامع النوري، يعد من أهم المواقع لداعش، وهو يقاتل بشراسة ليس لها مثيل للدفاع عنه، ويدفع بكل ما يملك من قوة من أجل منع الوحدات العسكرية العراقية من السيطرة عليه".
وقال البيضاني، من مدينة أربيل (شمال)، إن "الجامع بالنسبة للتنظيم يعد أهم من المجمع الحكومي، الذي خسره لصالح القوات مطلع مارس/آذار الجاري، لأنه يعلم أن خسارة هذا الموقع الذي شهد الإعلان عن خلافته المزعومة سوف يؤدي إلى انهياره بشكل تام في الموصل، وهروب جميع مقاتليه، بعد أن يكسب أفراد القوات العراقية روحا معنوية وطاقة إيجابية عالية تدفع بهم لمواصلة القتال والاستبسال لتحقيق النصر".
وتابع بالقول، ان "التنظيم يدفع بجميع عناصره ومقاتليه من مناطق الأحياء الواقع غربي المدينة نحو منتصف المدينة من أجل القتل وتكبيد القوات خسائر في الأرواح والمعدات، وإرغامها على التراجع، ليس من أجل استعادة المناطق التي فقدها، إنما لتأخير وصولها إلى موقع إعلان الخلافة لأن هذا الموقع يمثل من الرمزية الشيء الكثير للتنظيم، ووجوده على مستوى نينوى والعراق والمنطقة عامة".
ورجح البيضاني، أن "تكون آخر معركة شرسة للتنظيم في محيط منارة الحدباء، وبتحقيق القوات الانتصار فيها سوف ينهار التنظيم، ويعتمد على المعارك الفردية، والمواجهات الشخصية، التي تصدر من هنا وهناك، والتي سوف يتم معالجتها بكل سهولة من قبل القوات".
المعارك جريمة ضد الحضارة
من جهته، وصف الخبير في عالم الآثار إبراهيم عبد الله القريشي، حدوث المعارك قرب منارة الحدباء التاريخية "جريمة" بحق الإنسان وحضارته في كل بقاع العالم على اعتبار أن المنارة تمثل معلما أثريا للإنسانية جمعاء.
وشدد على أطراف النزاع المسلح بتوخي الدقة والحذر في تنفيذ العمليات القتالية، والابتعاد قدر الإمكان عن محيط هذا الصرح الحضاري، الذي يهدده السقوط بسبب عدم الاهتمام به طيلة العقود الماضية.
وبدى القريشي منزعجا مما قال إنه "عدم اهتمام القيادات العسكرية بالجانب الحضاري، والتاريخي الذي تمثله المعالم المعماري في الموصل، والتركيز فقط على كيفية القضاء على داعش، وكأن المدينة لا تمثل أي قيمة تاريخية، وأن الخلاص من التنظيم حتى لو كان على حساب تدمير المدينة، هو الهدف الأول والأبرز والأهم".
وأشار إلى أن "الانتصار ليس بتحرير المدينة من سيطرة المتشددين إنما الحفاظ على معالمها الأثرية والتراثية بعد الحفاظ على حياة المدنيين العزل"، عادا نتائج العمليات العسكرية للمعركة التي يشهدها ايمن الموصل بـ"السلبية" بعد الدمار الهائل الذي خلفته بأغلب المواقع المدنية والحكومية والتاريخية.
وأوضح القريشي، أن المعلومات الواردة من بعض المصادر المحلية والأمنية تفيد بأن مقذوفات صاروخية، وقذائف هاون، سقطت في محيط منارة الحدباء، ولم تعرف لغاية الآن ما إذا كانت المنارة قد تعرضت إلى أذى أم لا بسبب احتدام المعارك، مرجحا أن تتعرض المنارة إلى السقوط في حال حدث قصف عنيف قربها أو تم استهدافها مباشرة، لافتا إلى أن سقوط المنارة يعني ضياع تاريخ الموصل.
ووافقه الخبير في علم الآثار إلى الخبير العسكري العميد المتقاعد سالم مؤمن الذيابي، وأكد أن معركة الجانب الغربي للموصل شهدت لغاية الآن الكثير من الخروقات، ولعل أبرزها هي استخدام الأسلحة الثقيلة والصواريخ شديدة الانفجار من قبل القطعات العسكرية العراقية وطيران التحالف الدولي بشكل مفرط على الأحياء السكنية في مدينة الموصل، وهذا يزيد من أعداد الضحايا المدنيين.
وأشار الذيابي إلى أن "أكثر من نصف مليون مدني يواجهون خطر الموت في الجانب الغربي للمدينة، التي تشهد معارك شرسة بين القوات الحكومية العراقية بمساندة طيران التحالف الدولي وداعش، الذي خسر أجزاء كبيرة من المدينة".
وأضاف أن "المدنيين داخل المناطق التي تشهد قتالاً شرساً، يعيشون في وضع نفسي صعب والكثير منهم تعرضوا للصدمات بسبب اشتداد المعارك أو رؤية الجثث المنتشرة على قارعة الطرقات".
وقال الذيابي، إنه "يجب على القيادة العسكرية العليا الإسراع بتغيير خطة تحرير الجانب الغربي، والاعتماد على تكتيك قتالي خاص يتمثل في القيام بإنزال جوي على المواقع المهمة، للحفاظ على هذه المواقع من الدمار أولا، وثانيا أن تلك الخطة ستعجل من انكسار خطوط الصد للتنظيم وتدفع به نحو حافة الانهيار".