عذاب ومآسي ونجاة وأمل.. أسماء مواليد «الموصل» تحكي المعاناة
حياة، وعذاب، ومآسي، ونجاة، ولهيب، وأمل، ونضال، وكفاح، وسلام، وتحدي، وانتصار، وتحرير... أسماء لأطفال حديثي الولادة رأت أعينهم النور في طريق الهروب من جحيم الحرب في مدينة الموصل، أو في مخيمات النزوح المحيطة بالموصل شمالي العراق.
فكل ذوي طفل من هؤلاء عاش قصص يشيب الشعر منها، وهم يفرون من الجانب الغربي للموصل، والذي يشهد عمليات عسكرية طاحنة لتحريره من سيطرة "داعش"، كان مئات المدنيين وقودا لها منذ 19 فبراير الماضي.
أم نور، امرأة موصلية في نهاية عقدها الثاني، كتُب لها النجاة من جحيم الحرب والوصول إلى مخيم حمام العليل جنوب الموصل، بعد رحلة شاقة وهي تحمل بين أحشائها جنينا.
روت أم نور، قصتها بمرارة عندما التقتها الأناضول، قائلة "كنا نسكن منطقة تل الرمان جنوبي المدينة، وعندما انطلقت العمليات العسكرية لتحرير الحي، بلغ عمّر جنيني حينها 8 أشهر".
وأضافت "وقتها اشتدت المعارك وأصبحت أكثر ضراوة، فقرر زوجي الفرار للحفاظ على حياتنا، فخرجنا في مساء ممطر، حاملة في يدي اليمنى حقيبة تحتوي ملابس ومستلزمات ضرورية، وأحمل في يدي اليسرى راية بيضاء خبأتها تحت العباء التي كنت ارتديها، كي أخرجها عند الاقتراب من القوات العسكرية وأعطي بها إشارة مفادها أننا مدنيون وأبرياء لمنع استهدفنا بالنار، فيما كان زوجي يحمل ابننا نور، والبالغ من العمر 4 سنوات".
تواصل أم نور حديثها، "سرنا في الحي، وأزيز الرصاص يسمع من كل اتجاه، ووميض القصف الجوي والمدفعي يُرى في السماء بشكل واضح، تابعنا السير على الاقدم بشكل بطيء جدا، أشبه بسير السلحفاة في أرض وعرة جدا، تارة نختبئ خلف أعمدة الإنارة الكهربائية، وتارة خلف السيارات المتواجدة في الشارع، وتارة ثالثة نكمل المسير بمحاذاة جدران المنازل على أمل النجاة".
وتشير المتحدثة إلى أن "السير والتنقل كان بالنسبة لها بغاية الصعوبة، فإضافة إلى الخوف والجوع والبرد القارس جعل من مهمة الفرار، والجنين في أحشائها، أمرا أشبه بالمستحيل".
وبينت أنه "وبعد 3 ساعات من السير والتوقف بين الأزقة الملتوية والشوارع المظلمة، قابلت وزوجها 4 رجال مسلحين يرتدون زي عناصر داعش"، هنا توقفت عن الكلام وأخذت يداها ترتعش، ثم أكملت "قال أحد المسلحين لزوجي أين أنتم ذاهبون؟ فأجابه زوجي: امراتي جاءها طلق الولادة، ونحن نحاول الوصول إلى بيت والدتها، فكان رد المسلحين: اذهبوا وتوخوا الحذر فالجيش يبعد عنكم ثلاثة أزقة من هنا".
تتابع أم نور، أنه "بعد سماع ما قاله المسلح عن اقترابنا من الجيش دب الفرح في نفوسنا وأخذنا نسير بعزم وقوة، وبعد أقل من نصف ساعة وصلنا الى تقاطع الشارع العام، فوجدنا أنوار السيارات تضيء المكان والعلم العراقي يرفرف فوق السيارات، فعلمنا أن هذه هي القوات العراقية".
وتواصل "فأخرجت الراية البيضاء من تحت العباء ورفعتها وأخذ زوجي ينادي بأعلى صوت له: إننا أبرياء.. نريد النجاة.. وامراتي حامل وقد فررنا.. أنقذونا. فاستجاب الجنود إلى نداءاتنا وقاموا على الفور بإجلاءنا بواسطة سيارة خاصة نحو قرية البوسيف (أول قرية جنوب المدينة) ومن هناك وبعد رحلة استغرقت أكثر من سبع ساعات وصلنا الى مخيم حمام العليل".
وتلفت السيدة العراقية إلى أنها بقيت في المخيم نحو 18 يوما، وعندها وضعت مولودها الثاني، وكانت أنثى، لتتفق مع زوجها على تسميتها "انتصار"، استذكارا بالتحديات التي واجهتهما خلال فرارهما.
وتضيف أن الأحداث التي مرت بها والمشاهد التي عاشتها تعد لا شيء أمام القص الأخرى التي ترويها أخريات في المخيم.
الأناضول، وبعد الخروج من خيمة أم نور، جابت المخيم لتلتقي بالكثير من الأمهات اللاتي رزقن بمواليد جدد، وحكايتهن عن الفرار من الموصل، لا تختلف كثيرا عن قصة أم نور، فمن جحيم الحرب وحطامها خرجن ومن ثم رزقن بأطفال، ألا أن قصة المرأة العشرينية "عفراء جميل"، كانت مختلفة عن قريناتها الأخريات.
وبدأت عفراء، بالحديث قائلة، "تزوجت من خطاب، قبل عام في مراسيم بسيطة جدا بسبب الوضع الاقتصادي الصعب الذي تمر الموصل به، وشاء القدر أني حملت منه بجنين، ومع اقتراب موعد الولادة اقتحمت القوات المسلحة العراقية الجانب الغربي للمدينة، وتوغلت إلى أن وصلت الى منطقة موصل الجديدة جنوبي المدينة، حيث يقع منزلنا".
تتابع عفراء، "مع اشتداد المعارك البرية وشراسة القصف الجوي على المنطقة وما خلفها من دمار، قرر جميع من كان في منزلنا من زوجي وأهله وأبي وأمي وإخوتي وأخواتي الفرار نحو العراء على أمل النجاة، فلم يكن أمامي خيار آخر سوى الخروج معهم".
وتضيف "بعد أكثر من 5 ساعات من السير المصحوب بالخوف الشديد والفزع من صرخات الجرحى لم أستطع السيطرة على الألم الذي كان يُقطع بطني طيلة رحلة الفرار فأطلقت صرخة توقف الجميع على إثرها واقتربوا مني، فقلت لزوجي خطاب، وأنا أقبض على كف يديه الأيمن، إنها ساعة الولادة، فوقف الجميع مندهشين، ولم يعد بمقدورهم التحرك أو التفكير بماذا يعملون".
وتوضح عفراء، "كنت شبه غائبة عن الوعي، وأنا أشعر بآلام الولادة إلا أنني أحسست أنه جرى وضعي في بطانية وسحبي من قبل الرجال ووضعي على ركام منزل".
واستدركت "الجميع تحرك بسرعة لعمل ستار من الملابس التي تم حملها مع الفارين، ودخلت أكثر من امرأة إليّ، وخلف الستار العشرات ينتظرون وليس لديهم القدرة على فعل أي شيء سوى التوجه بالدعاء الى الله لتفريج هذه الأزمة".
تؤكد عفراء، أنها غابت عن الوعي، وبعد غيبوبة لأكثر من نصف ساعة جرى إيقاظها وإبلاغها أنها وضعت طفلا ذكرا وهو وسيم جدا.
تجهش بالبكاء ثم تواصل حديثها "طلبوا مني إرضاعه، ثم أتوا لي بعربة مصنوعة من الخشب ووضعوني بها وانطلقوا بي إلى أن وصلنا إلى قوة عسكرية، ومن هناك وبعد رحلة لم تكن أسهل من سابقتها وصلنا الى مخيم النازحين، ليجرِ إسعافي من قبل الفرق الصحية وتوفير المستلزمات الطبية لي".
وأضافت أن الجميع اتفق على تسمية المولود "كفاح"، ليوثق بهذا الاسم رحلة الكفاح التي عشناها للنجاة والبدء بحياة جديدة نتمنى أن تكون أفضل من تلك التي عشنها طلية السنوات السابقة.
ويقول الدكتور عمر الهيتي، مسؤول وحدة الطبابة الميدانية في مخيم حمام العليل، إن 32 مولودا جديدا بين ذكر وأنثى يتواجدون الآن في المخيم مع ذويهم الفرارين من الجانب الغربي للموصل".
وأشار إلى أن الإطارات الصحية تضاعف من جهودها لتقديم الدعم اللازم لهم والحفاظ عليهم وإبعاد خطر الموت عنهم.
وأوضح الهيتي، الذي التقت به الأناضول، داخل المخيم وهو يقدم الجرعة اللقاحية للأطفال حديثي الولادة، أن "إدارة المخيم الصحية بانتظار المزيد من الولادات الحديثة، فهناك نازحات على موعد قريب من الإنجاب".
ولفت إلى أنه "جرت مفاتحة وزارة الصحة، ومديرية صحة نينوى، لتكثيف دعمها الطبي الى الإطارات الصحية والمشافي داخل المخيم لنتمكن من حماية المواليد الجدد، لاسيما أنهم بحاجة إلى لقاحات خاصة تقيهم من الأمراض وتقلبات المناخ وعدم توفر الأجواء المناسبة والتي تعد العائق الأول والأخطر في المخيم".
وتابع الهيتي، إن الوضع الصحي للمدنيين في مخيمات النازحين المنتشرة جنوب الموصل وشرقها غير جيد لاسيما وأن فصل الصيف على الأبواب، حيث يشهد وصول درجات الحرارة الى 50 درجة مئوية، الأمر قد يتسبب بانتشار الأمراض الوبائية بين النازحين الذين يعانون في الأصل من سوء الخدمات وقلة النظافة".
وتحدثت الناشطة في مجال حقوق الإنسان ميسم كريم الحجاج، رئيسة منظمة (استمر) الإنسانية، إن "الولادات التي حدثت ونترقب حدوثها في مخيمات النازحين أمر يبعث بالأمل ويدفع بنا لمواصلة الجهود، لأن الحياة مستمرة ولن تتوقف مهما حاول البعض وفعل واستخدم القوة لإيقافها".
وقالت إنها "أطلقت أسماء: جمال وسلام ونجاة، على ثلاثة مواليد جدد، وأن ذويهم فرحوا كثيرا بهذه الأسماء واعتمدوها بشكل رسمي".