وجهة نظر مختلفة.. عالم ما بعد كورونا لن يختلف عما مضى (تحليل)
مع تزايد تبعات تفشي فيروس "كورونا" الجديد، ظهرت تحليلات مفادها بأن التغيير الذي سيضرب العالم بعد هذا للوباء سيكون دراماتيكيًّا، وذهب البعض للحديث عن تغيرات جيوسياسية شبيهة بتلك التي حدثت بعد الحرب العالمية الثانية.
لكن، على الجانب الآخر، لا يزال فريق آخر يتمسك بأن الأمور لن تجري على هذا النحو، بل إنه يعتبر أن أزمة "كورونا" ستعزز الجغرافيا السياسية العالمية.
ويرى أنصار هذا الفريق الثاني أن الوباء والاستجابة له عن الخصائص الأساسية للجغرافيا السياسية وعززها، ونتيجة لذلك، ومن وجهة نظرهم، تعد هذه الأزمة محطة على طول الطريق الذي كان العالم يسير عليه خلال العقود القليلة الماضية، أكثر من كونها نقطة تحول.
ومن السابق لأوانه التنبؤ بموعد انتهاء الأزمة نفسها، سواء في غضون 6 أو 12 أو 18 شهرًا، سيعتمد التوقيت على درجة اتباع الأشخاص لقواعد السلامة مثل المسافة الاجتماعية والنظافة الصحية الموصى بها، وكذلك على توافر اختبارات سريعة ودقيقة ومعقولة التكلفة وعقاقير مضادة للفيروسات، ومدى الإغاثة الاقتصادية المقدمة للأفراد والشركات.
سمات معروفة
ومع ذلك، فإن سمات العالم بعد الأزمة تبدو معروفة؛ تضاؤل القيادة الأمريكية، وتعثر التعاون العالمي، وخلاف القوى العظمى، وكل هذه السمات تميزت بها البيئة الدولية قبل ظهور "كورونا"، وأدى الوباء إلى إبرازها أكثر من أي وقت مضى، ومن المرجح أن تكون سمات أكثر بروزًا في العالم بعد ذلك، بحسب ما يرى الدبلوماسي الأمريكي السابق "ريتشارد هاس".
ويقول "هاس" إن إحدى أبرز سمات الأزمة الحالية هو استمرار حالة القصور الواضح للقيادة الأمريكية، حيث لم تحشد الولايات المتحدة العالم في محاولة جماعية لمواجهة الفيروس أو آثاره الاقتصادية، كما لم تجعله ليحذو حذوها في معالجة المشكلة في الداخل.
وتعتني دول أخرى بنفسها بأفضل ما يمكن أو تلجأ لدول أخرى تجاوزت ذروة العدوى، مثل الصين، للحصول على المساعدة.
ويضيف، في تحليل نشرته مجلة "فورين أفيرز" الأمريكية: وإذا كان العالم الذي سيظهر بعد هذه الأزمة سيكون عالمًا تقل فيه هيمنة الولايات المتحدة، فمن المستحيل تخيل الكتابة اليوم عن "لحظة أحادية القطبية"، ولكن هذا الاتجاه ليس جديدًا، لقد كان واضحا منذ عقد على الأقل.
ويتابع: ويأتي هذا نتيجة ما يسمى "صعود البقية" (والصين على وجه الخصوص)، ما أدى إلى انخفاض في الميزة النسبية للولايات المتحدة على الرغم من استمرار قوتها الاقتصادية والعسكرية المطلقة في النمو.
التراجع الأمريكي
وبحسب الدبلوماسي الأمريكي السابق، يمكن القول إن هذا يأتي نتيجة تعثر الإرادة الأمريكية بدلاً من تراجع القدرة الأمريكية، حيث أشرف الرئيس "باراك أوباما" على الانسحاب من أفغانستان والشرق الأوسط، واستخدم الرئيس "دونالد ترامب" في الغالب القوة الاقتصادية لمواجهة الأعداء لكنه أنهى بشكل أساسي الوجود الأمريكي في سوريا، ويسعى إلى القيام بنفس الشيء في أفغانستان، وربما الأكثر أهمية، لم يبد اهتمامًا كبيرًا بالتحالفات أو بالحفاظ على الدور التقليدي للولايات المتحدة في معالجة القضايا العابرة للحدود.
كان هذا التغيير جزءًا كبيرًا من جاذبية رسالة "ترامب" الشهيرة: "أمريكا أولاً"، والتي وعدت بأن الولايات المتحدة ستكون أقوى وأكثر ازدهارًا إذا خففت من أعباء انشغالاتها في الخارج وركزت طاقاتها على القضايا المحلية.
وفق هذا الرأي، فإن الكثير مما فعلته الولايات المتحدة في العالم كان غير ضروري وغير مرتبط بالرفاهية المحلية، بالنسبة للعديد من الأمريكيين، من المرجح أن يعزز الوباء هذا الرأي بالرغم من حقيقة أنه يجب أن يسلط الضوء على كيفية تأثر القضايا المحلية بما يحدث في بقية العالم.
قبل وقت طويل من تفشي "كورونا"، كان هناك بالفعل انخفاض حاد في جاذبية النموذج الأمريكي، بفضل الجمود السياسي المستمر، والعنف المسلح، وسوء الإدارة التي أدت إلى الأزمة المالية العالمية عام 2008، كما أن استجابة الحكومة الفيدرالية البطيئة وغير المترابطة وغير الفعالة في كثير من الأحيان للوباء ستعزز الرأي السائد بالفعل بأن الولايات المتحدة ضلت طريقها.
ورغم أن الوباء ضرب مثالا واضحا على سيادة العولمة في العالمة، حيث انتقل "كورونا" بسرعة وشراسة من بلد إلى آخر، وطاف على البلدان الغنية والنامية والفقيرة، لكن ما هو مفقود هو أي علامة على استجابة عالمية ذات مغزى.
ثبات الاتجاهات السياسية العالمية
ولكن في حين أن هذا الوباء جعل هذا الواقع واضحًا، فإن الاتجاهات الأساسية سبقته منذ فترة طويلة، فقد ظهرت تحديات عالمية لا يمكن لأي دولة، مهما كانت قوتها، أن تواجهها بمفردها وفشل المنظمات العالمية في مواكبة هذه التحديات.
ولن يغير "كورونا" مستوى العلاقات بين أقوى دولتين في العالم حاليا، الولايات المتحدة والصين، ورغم ان التعاون بينهما ضروري لمواجهة التحديات العالمية، إلا أن الواقع يقول إن أزمة تفشي الفيروس التاجي زادت مشاعر العداء ولم تقللها.
يحمل الكثيرون في واشنطن الحكومة الصينية المسؤولية بسبب أسابيع من التستر والتراخي، بما في ذلك عدم إغلاق مدينة ووهان على الفور، والسماح لآلاف المصابين بالمغادرة ونشر الفيروس للعالم. إن محاولة الصين الآن لتصوير نفسها على أنها تقدم نموذجًا ناجحًا للتعامل مع الوباء واستخدام هذه اللحظة كفرصة لتوسيع نفوذها في جميع أنحاء العالم سيزيد من العداء الأمريكي.
وفي الوقت نفسه، لن تغير الأزمة الحالية شيئا بشأن وجهة نظر الصين بأن الوجود الأمريكي في آسيا هو حالة تاريخية شاذة أو يقلل من استيائها من سياسة الولايات المتحدة بشأن مجموعة من القضايا، بما في ذلك التجارة وحقوق الإنسان وتايوان.
من ناحية أخرى، وقبل الوباء، كانت هناك مقاومة في معظم أنحاء العالم المتقدم لقبول أعداد كبيرة من المهاجرين واللاجئين، وهو اتجاه كان مرئيًا على الأقل خلال نصف العقد الماضي.
ومن المتوقع أن يزيد الوباء من رفض موجات اللاجئين، لمنع استيراد الأمراض المعدية، كما أن البطالة المرتفعة ستجعل المجتمعات حذرة من قبول الغرباء، وستنمو هذه المعارضة مع تعثر الاقتصادات في تلبية احتياجات المواطنين.
الضعيف سيزداد ضعفا
أيضا، كان ضعف الدولة مشكلة عالمية كبيرة لعقود، لكن الخسائر الاقتصادية للوباء ستخلق دولًا أكثر ضعفاً أو دولا فاشلة، ومن شبه المؤكد أن هذا سوف يتفاقم بسبب مشكلة الديون المتزايدة.
سيواجه العالم النامي على وجه الخصوص متطلبات هائلة لا يمكنه تلبيتها، ويبقى أن نرى ما إذا كانت البلدان المتقدمة ستكون مستعدة لتقديم المساعدة بالنظر إلى الطلبات في الداخل.
وفي أوروبا، كان من المتوقع أن يؤدي "كورونا" إلى زيادة التضامن بين دول القارة العجوز، وبالتالي زيادة فاعلية الاتحاد الأوروبي، وإثبات أن وجهة نظر بريطانيا كانت خطأ عندما خرجت منه، لكن ما حدث هو العكس تماما، حيث بات أن هذا الاتحاد يترنح، وأن التحديات الجيوسياسية مستمرة لتكون أقوى من كل شئ.
ومن المرجح أن يعزز الوباء التراجع الديمقراطي وهو ما كان واضحا منذ 15 عاما، ستكون هناك دعوات لدور أكبر للسلطة تجاه المجتمع، سواء كان ذلك لتقييد حركة السكان أو تقديم المساعدة الاقتصادية.
ما سبق يصب في نتيجة حتمية، وهي أن جغرافيا العالم السياسية لن تتغير بشكل درامي بعد انتهاء أزمة "كورونا"، بل على العكس سيدخل العالم في نفق من الجمود الجيوسياسي والاقتصادي أيضا، ولا يبدو أن القوى الفاعلة في الكوكب مستعدة لتغيير استراتيجاتها التي كانت متواجدة قبل الوباء، بل إن كل ممارسة ستزداد في نفس طريقها.
على كل حال، تتعدد وجهات النظر حول مستقبل العالم فيما بعد "كورونا"، فلننتظر ونرى.