في الذكرى العاشرة للربيع العربي
منصات التواصل الاجتماعي.. هل تحولت من نافذة أمل إلى أداة قمع؟
تصاعدت في الآونة الأخيرة الانتقادات الموجهة إلى منصات التواصل الاجتماعي الأشهر، مثل فيسبوك وتويتر ويوتيوب، على خلفية القيود المتزايدة التي تفرضها على الأصوات المعارضة والمستقلة في بقاع متعددة من العالم، في مقابل مساحات متزايدة من التنسيق والتعاون مع الحكومات، بما في ذلك تلك التي تواجه اتهامات بممارسة القمع والتضييق على معارضيها.
ولعبت الهواتف الذكية وشبكات التواصل الاجتماعي دورا هاما في انطلاق شرارة "الربيع العربي" قبل عقد من الزمن، إذ ساهمت في التعبئة ونقل المعلومات والصور داخل العالم العربي وخارجه.
ومنحت مواقع التواصل الاجتماعي المتظاهرين الشباب وسيلة تقنية ساعدتهم على الإطاحة بأنظمة متسلطة ومتجذرة، بعد أن انتشرت بواسطتها روح الثورة.
وبفضل تويتر وفيس بوك ويوتيوب توسعت انتفاضات الربيع العربي بسرعة فائقة، لكن الدول دخلت بعد ذلك في سباق التسلح الرقمي، فعززت المراقبة الإلكترونية والرقابة على الإنترنت.
وبعد أن قدم "الربيع العربي" بصيص أمل لكثيرين، انتهى في معظم الدول التي شهدته بأنظمة أكثر قمعية من قبل أو بحروب مدمرة، كما هي الحال في سوريا وليبيا واليمن.
إسكات المعارضين
وبمناسبة الذكرى العاشرة لاندلاع شرارة ثورات الربيع العربي، أصدرت العديد من المؤسسات والشخصيات الحقوقية، بيانا اليوم الخميس، دعت فيه المنصات الثلاث الشهيرة إلى التوقف عن "إسكات الأصوات المنتقِدة من الشرق الأوسط وشمال إفريقيا".
وقال البيان إنه "مع إحيائنا للذكرى العاشرة لذاك الربيع العربي، نعرب نحن، الموقعون أدناه، من نشطاء وصحفيين ومنظمات حقوقية، عن إحباطنا واستيائنا من سياسات المنصات (فيس بوك، تويتر، يوتيوب) بما في ذلك إجراءات تعديل المحتوى أو حذفه بهدف إسكات الأصوات الناقدة والمعارضة، وخاصة التي تأتي من المجتمعات المهمَّشة والمضطهَدة، في جميع أنحاء الشرق الأوسط وشمال أفريقيا".
وأضاف البيان "يُعتبر الربيع العربي تاريخيًا لأسباب عديدة، ومن بين ميراثه البارز استخدام النشطاء والمواطنين لوسائل التواصل الاجتماعي كأداة للضغط من أجل صناعة التغيير السياسي وبلوغ العدالة الاجتماعية، إذ تم ترسيخ الإنترنت كعنصر أساسي في تمكين حقوق الإنسان في العصر الرقمي".
وتابع: "سبق وافتخرت الشركات المديرة لمنصات التواصل الاجتماعي بدورها في ربط الناس بعضهم ببعض خلال تلك الفترة. على النحو الذي أشار إليه مارك زوكربيرج في منشور شهير له في 2012 بعنوان "رسالة المؤسس"، قائلاً: "حين منحنا الناس القدرة على المشاركة، رأيناهم يصلون بأصواتهم إلى مساحات مختلفة عما كان ممكنًا تاريخيًا. ستزداد هذه الأصوات في العدد والحجم. ولا يمكن تجاهل هؤلاء الناس. بمرور الوقت، نتوقع أن تصبح الحكومات أكثر استجابة للقضايا والمخاوف التي تثيرها شعوبها بشكل مباشر وليس من خلال وسطاء تسيطر عليهم قلة مختارة".
عودة الاستبداد
واعتبر البيان أن "توقع زوكربيرج كان خاطئًا. إذ اختارت المزيد من الحكومات في أماكن مختلفة من العالم طريق الاستبداد، وساعدتها المنصات الإلكترونية على القمع عن طريق عقد صفقات مع رؤساء دول قمعية وفتح الأبواب للطغاة؛ وفرض الرقابة على نشطاء وصحفيين مهمّين ومحاصرة صناع التغيير في جميع أنحاء الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، وقد حدث ذلك- في كثر من الأحيان- بأمر واضح من الحكومات نفسها".
واستعرض البيان الحقوقي عدة أمثلة لهذه الرقابة، مشيرا إلى أنه "في تونس: في يونيه 2020، عطل الفيس بوك بشكلٍ دائم أكثر من 60 حسابًا لنشطاء وصحفيين وموسيقيين تونسيين، مستندًا إلى أدلة شحيحة. وفي حين أسترد معظمهم حساباتهم لاحقًا بفضل رد فعل جماعات المجتمع المدني السريع، لم يتم حتى الآن استعادة بعض حسابات لفنانين ولموسيقيين تونسيين. ولم ينشر فيس بوك أي رد بعد أن أرسلنا له رسالتنا الائتلافية".
و"في سوريا: في أوائل عام 2020، اطلق نشطاء سوريون حملة للتنديد بقرار فيس بوك بحذف وتعطيل الآلاف من الحسابات والصفحات المعادية للأسد، والتي وثقت جرائم الحرب منذ 2011، وذلك بذريعة إزالة المحتوى الإرهابي. ورغم استئناف القرار، لا يزال عدد من هذه الحسابات معلقًا. وبالمثل، وثق السوريون كيف يعمل موقع يوتيوب حرفيًا على محو تاريخهم".
و"في فلسطين: شن عدد من النشطاء ومستخدمو وسائل التواصل الاجتماعي الحملات منذ عام 2016 لرفع الوعي حول الممارسات الرقابية لشركات التواصل الاجتماعي. وفي مايو 2020، كان هناك ما لا يقل عن 52 حسابًا موقوفًا لنشطاء وصحفيين فلسطينيين، ومنذ ذلك الحين تم تقييد المزيد من الحسابات. كما علّق موقع تويتر حساب وكالة إعلامية موثقة، هي شبكة قدس نيوز، وادعى اشتباهه في ارتباط الشبكة بجماعات إرهابية. ولم يرد الموقع على طلبات إعادة النظر في هذا الأمر. وقد سبق وعبر مستخدمو وسائل التواصل الاجتماعي الفلسطينيون لمرات عديدة عن قلقهم من سياسات المنصة التمييزية".
و"في مصر: مطلع أكتوبر 2019، علّق تويتر بشكل جماعي حسابات بعض المعارضين المصريين داخل مصر وخارجها. وفي ديسمبر 2017، علق موقع تويتر حساب ناشط لديه أكثر من 350 ألف متابعًا، ولم تتم استعادة الحساب بعد. كما تم تعليق حساب نفس الناشط على فيس بوك أيضًا في نوفمبر 2017 ولم تتم استعادته إلا بعد تدخل دولي. كما أزال يوتيوب حسابه في وقت سابق من عام 2007".
عنصرية وتفرقة
ولفت البيان إلى أن "هناك أمثلة كثيرة جدًا توثق التصور المشترك على نطاق واسع بين النشطاء والمستخدمين في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا وجنوب الكرة الأرضية بأن هذه المنصات لا تهتم بهم، وغالبًا ما تفشل في حماية المدافعين عن حقوق الإنسان حين تُثار المخاوف حولهم".
وأضاف: "لقد أصبح تعليق الحسابات التعسفي وغير الشفاف، وإزالة الخطاب السياسي والمعارض، سلوكًا متكررًا ومنهجيًا لدرجة لا تسمح باعتبار هذه القرارات مجرد حوادث معزولة أو نتيجة أخطاء مؤقتة في صنع القرار الآلي".
واستغرب البيان من أنه "بينما تتجاوب منصات فيس بوك وتويتر سريعًا مع احتجاج النشطاء أو شكاوى ومطالب منظمات حقوق الإنسان (خاصة في الولايات المتحدة وأوروبا)، لا يصل رد فعل هذه المنصات إلى المستوى المطلوب عندما يتعلق الأمر بمنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. كما لا يتم إبلاغ المستخدمين النهائيين في كثير من الأحيان بالقاعدة التي انتهكوها، ولا يتم توفير وسيلة لاستئناف القرار أو السماح بالتواصل مع المشرفين".
وشدد على أنه "لا ينبغي أن يكون الانتصاف والتعويض امتيازًا مخصصًا لأولئك الذين لديهم إمكانية الوصول للسلطة، أو حكرًا على من يستطيع توصيل صوته. ولا يمكن أن يستمر الوضع القائم بحكم الأمر الواقع".
وتابع بالقول: "تعاني منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا من أحد أسوأ سجلات حرية التعبير في العالم، وتظل وسائل التواصل الاجتماعي حاسمة في مساعدة الناس على الاتصال وتنظيم وتوثيق انتهاكات وتجاوزات حقوق الإنسان. وعليه، نحثكم على عدم التواطؤ في الرقابة وفي محو وحظر روايات المجتمعات المضطهدة وتاريخها".
تدابير للحل
واقترح البيان الحقوقي عدة "تدابير لضمان معاملة المستخدمين في جميع أنحاء المنطقة بشكل عادل، حتى يكونوا قادرين على التعبير عن أنفسهم بحرية"، تشمل: "الابتعاد عن التمييز التعسفي أو غير العادل. المشاركة بنشاط في مراجعة المظالم والشكاوى المختلفة من المستخدمين المحليين والنشطاء وخبراء حقوق الإنسان والأكاديميين والمجتمع المدني من منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. كما يجب مراعاة السياقات السياسية والاجتماعية والثقافية الإقليمية والفروق الدقيقة عند تنفيذ وتطوير ومراجعة السياسات والمنتجات والخدمات".
كما طالب البيان بـ"الاستثمار في الخبرات المحلية والإقليمية الضرورية لتطوير وتنفيذ قرارات تعديل المحتوى القائمة على السياق والمتوافقة مع أطر حقوق الإنسان في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. وتعيين وسطاء محتوى يفهمون اللهجات المختلفة والمتنوعة ويجيدوا اللغة العربية المنطوقة في 22 دولة عربية. وتزويد هؤلاء الوسطاء بالدعم المطلوب لعملهم بأمان وكفاءة وبالتشاور مع أقرانهم، بما في ذلك في الإدارة العليا".
ودعا البيان كذلك إلى "منح اهتمامًا خاصًا للحالات الناشئة عن مناطق الحرب والصراع لضمان أن قرارات تعديل المحتوى لا تستهدف بشكل غير عادل المجتمعات المهمشة. على سبيل المثال، لابد من التمييز بين توثيق انتهاكات حقوق الإنسان كنشاط مشروع يختلف عن نشاط نشر أو تمجيد المحتوى الإرهابي أو المتطرف. كما أن ثمة احتياج لمزيد من الشفافية فيما يتعلق بتعريف وتعديل المحتوى الإرهابي والمتطرف العنيف".
كما طالب البيان بـ "الحفاظ على المحتوى المحظور المتعلق بالقضايا الناشئة عن مناطق الحرب والنزاع والتي يحظر فيس بوك الوصول إليه، إذ يمكن أن يكون هذا المحتوى دليلاً للضحايا والمنظمات التي تسعى إلى محاسبة الجناة. وضمان إتاحة هذا المحتوى للسلطات القضائية الدولية والوطنية دون تأخير غير مبرر".
ورأى البيان أن "الاعتذار العلني عن الأخطاء الفنية غير كافٍ طالما بقيت واستمرت القرارات الخاطئة المتعلقة بسياسة الإشراف على المحتوى. لذا يجب على هذه المنصات والشركات التي تديرها توفير قدر أكبر من الشفافية والإشعار، وتقديم نداءات هادفة وفي الوقت المناسب للمستخدمين. أخيرًا، تقدم مبادئ سانتا كلارا بشأن الشفافية والمساءلة في الإشراف على المحتوى – والتي اعتمدها فيس بوك وتويتر ويوتيوب في 2019 – مجموعة أساسية من الإرشادات التي يجب تنفيذها فورًا".
مبالغة وتضخيم
واندلعت الشرارة الأولى لثورات الربيع العربي من تونس، عندما أضرم محمد البوعزيزي البالغ حينها 26 عاما، البائع المتجول، النار في جسده صبيحة يوم 17 ديسمبر 2010 بالقرب من مقرّ ولاية سيدي بوزيد، إثر خلاف حاد نشب بينه وبين عناصر الشرطة حول بضاعة كان يبيعها.
وكان البوعزيزي يكسب مورد رزقه كالعديد من الشباب الذين لم يجدوا عملا، من بيع الغلال والخضر على عربة في الشارع الرئيسي في مدينة سيدي بوزيد. وتوفي محمد مطلع يناير متأثرا بحروق بليغة، في مستشفى في الضاحية الجنوبية للعاصمة تونس.
وأجج احتجاج البوعزيزي التظاهرات التي اتسعت وشملت الولايات القريبة ووصلت الى العاصمة ودفعت بعد شهر الرئيس الأسبق الراحل زين العابدين بن علي الى الهروب في 14 يناير، بعد 23 عاما على رأس السلطة. ومن تونس انتقلت شرارة الثورة إلى العديد من الدول العربية.
وإذا كان تصرف البوعزيزي اليائس قد عبر عن غضب حقيقي كان يشعر به الملايين، فإن العالم الافتراضي للتواصل عبر الإنترنت هو ما نشر الغضب والأمل في التغيير كالنار في الهشيم.
وتم تسخير السخط الذي كان يُطبَخ على نار هادئة منذ فترة طويلة في الأوساط الشعبية الفقيرة، وعرف الناشطون البارعون في مجال التكنولوجيا والمتحدرون بمعظمهم من الطبقة الوسطى كيف يضاعفونه لتبرز حركة جماهيرية ما لبثت أن انتشرت من المغرب إلى إيران.
ويرى نشطاء الإنترنت العرب اليوم إن السلطات في الدول العربية فقدت جزءا من قدرتها على التحكم بما يمكن للمواطنين رؤيته ومعرفته وقوله، كما اتضح من خلال الموجة الثانية من الاحتجاجات التي هزت الجزائر والسودان والعراق ولبنان في 2019 و2020.
وفي المقابل، تمكنت دول عربية عديدة في السنوات الماضية من تهيئة ذخيرتها الإلكترونية الخاصة واتخاذ إجراءات صارمة بحق نشطاء على الإنترنت لإسكات اعتراضاتهم وانتقاداتهم.
وفي المؤشر العالمي لحرية الصحافة الذي تعده منظمة "مراسلون بلا حدود"، لا تزال معظم الدول العربية قريبة من القاع، والمكان الوحيد الذي يقدم بصيص أمل هو تونس.
ولا يتفق البعض مع الرواية التي تضخم من دور منصات التواصل الاجتماعي في ثورات الربيع العربي، حيث يرى منير بن صلاح مؤلف كتاب "الشبكات الاجتماعية والثورات العربية" إن هناك مبالغة كبيرة في الدور الذي لعبته شبكات التواصل الاجتماعي في الربيع العربي، خاصة في الصحافة الغربية. وتسمية الأحداث التي عاشتها الدول العربية بثورة فيس بوك أو توتير هو بمثابة خرافة ارتجلتها الصحافة.
وأضاف بن صلاح، لموقع فرانس 24، أن الجماهير العربية لم تحتل الساحات بفضل شبكات التواصل الاجتماعي، وإنما نزلت إلى الشوارع لأسباب اجتماعية وسياسية، وساعدتها الهواتف الذكية في "التجمع والاتحاد مع أشخاص آخرين يشاركونهم نفس المطالب".