الفقراء يملأون فراغ الإجراءات المؤلمة بمتابعة البورصة والذهب والدولار

كتب: نقلا عن الحياة اللندنية

فى: تقارير

12:28 17 نوفمبر 2016

حين خرج الثنائي الراحل الكاتب الساخر أحمد رجب وفنان الكاريكاتور مصطفى حسين بشخصية «الكحيت» الذي لا يملك مالاً أو جاهاً، وتبدو آثار الفقر واضحة على ملابسه وملامحه، لكنه حريص كل الحرص على متابعة أخبار البورصة، وملاحقة صعود أسعار صرف العملات وهبوطه، وتبادل أطراف حديث المال والمصارف مع أصدقائه الأثرياء، لم يدركا أنهما تكهنا بشخصية باتت تمثل ملايين المصريين في العام السادس عشر من الألفية الثالثة.

 

ثلاثة من عمال محطة الوقود قدموا ما يمكن أن يرتقي إلى نشرة أخبار المال والأعمال أثناء عملهم. تأرجح الحديث الشيق بين صعود جماعي للبورصة في بداية تعاملاتها، وهبوط نسبي لغرام الذهب عيار 21، وارتفاع طفيف في سعر الجنيه المصري في مقابل الوحش الدولاري. وتبادل الثلاثة التفسيرات الاقتصادية والتكهنات المستقبلية لما يمكن توقعه للبلاد والعباد، على رغم أنهم يعتمدون في دخولهم اليومية على جنيهات شحيحة يتركها العملاء باتت أكثر شحاً من جراء الهبوب المؤلم لرياح الإجراءات الاقتصادية العسيرة.

 

المثير أن التوقعات المطروحة والحلول المعروضة لم تختلف كثيراً عما تموج به استوديوات التحليل الاقتصادي وبرامج «اللت» الكلامي، لكن بمسحة شعبية ذكية ونبرة واقعية معملية. قرض الصندوق (النقد الدولي) هو لتحسين سمعة البلاد الاقتصادية، لكنه في واقع الحال لا يعنيهم. ما يعنيهم هو تفاصيل الحياة اليومية. فهم موعودون ببطاقة تموينية أكثر ذكاء وتوزيعة سلعية أعلى كفاءة.

 

وهم مهمومون بمنظومة علاجية أوسع انتشاراً ووفرة دوائية أرخص سعراً. وهم قلقون على مستقبل أبنائهم وبناتهم في مناطق لا يعرفون سواها وبيوت غير آدمية يقطنونها. والقائمة طويلة. تتردد كلمات عن «الستر» و «الرضا» و «الحلول الإلهية». وتتكرر القفشات والنكات والسخرية من أحوالهم. لكن أمارات الألم وعلامات الإنهاك واضحة وضوح الشمس.

 

الشمس التي أشرقت والصباح الذي انبزغ والظلمات التي انجلت بفعل توريد الدفعة الأولى من قرض الصندوق، وبدء التلويح بمزيد من الأفراح مع الإفراج عن دفعة ثانية من القرض نفسه بعد شهور، لا تنعكس بالقدر نفسه من الإشراق والبزوغ والانجلاء على حياة الملايين.

ملايين المصريين المصنفين تحت خط الفقر وفوقه وحوله، إضافة إلى ملايين القادمين والنازحين الجدد من منتصف الهرم الطبقي، ينتظرون بفارغ الصبر تفعيلات حقيقية وترجمات فعلية للحماية الاجتماعية الموعودة.

 

وعود الرئيس المتكررة عن إجراءات حكومية لحماية الطبقات الأكثر حاجة، وصدى الوعود المسموعة في تصريحات الوزراء عن خطوات الوقاية، ومساندات الإعلام الداعم ومساعدات الكتاب الذين أخذوا على عاتقهم مهمة الانضمام إلى أوركسترا العزف الجماعي لمقطوعة «الحلم والأمل مع الصبر والعمل» تطمئن بعضهم، وتهدئ آخرين.

 

وإذا كانت الترجمات الفعلية تبقى دائماً أقل من الأمنيات الحقيقية، فإن الغالبية باتت على يقين بأن دور الدولة يتغير، ومهمة الأنظمة تتبدل، وأن الرئيس لم يعد «بابا» والحكومة توقفت عن لعب دور «ماما».

 

فطام الشعب عن «ماما» التي تقدم خدمة التعليم وإن كانت رديئة، وفرصة العمل وإن كانت شكلية، ومنظومة التموين وإن كانت ناقصة، ودعم الطاقة وإن كان في طريقه إلى الزوال تحوّل من فكرة يخشى أولو الأمر من طرحها إلى واقع تدور رحى تنفيذه على مرأى ومسمع من الجميع.

 

وبينما دفعات القرض تتواتر، وشروط الصندوق تتبلور، وخطوات أليمة طال تأجيلها ووجب تنفيذها تباغت الجميع بلا هوادة، ينتظر المصريون ما وصفته إدارة الصندوق بـ «الدرس الذي تعملته» من هبوب رياح الربيع التي جعلت الحماية الاجتماعية ضمانة للبلدان المقترضة، وإجراءات كفاية الفقراء على القدر نفسه من أهمية شروط ضمان السداد، وإلا ضاعت البلاد ثورة وفوضى وتبددت القروض إفلاساً وفقراً.

 

الفقر في مصر ظل على مدى السنوات العشر الأخيرة من حكم الرئيس السابق حسني مبارك على قائمة الاهتمام، سواء لتبرير الإصلاح الاقتصادي منزوع الحماية أو لتهدئة الرأي العام إزاء الهوة الآخذة في الاتساع بين «الناس اللي فوق والناس اللي تحت».

 

لكنه تحول في سنوات ما بعد الثورة الست إلى القشة القادرة إما على كسر ظهر البعير أو مد يد العون إلى البلاد والعباد. فبين رياح ربيعية في شتاء 2011، وزعابيب شتوية في صيف 2013، وتلويح بأجواء غير مستقرة وفرص سقوط أمطار أو احتمالات هطول سيول، يبقى الفقر والفقراء ورقة لتحقيق المصالح، أو جمع المكاسب، أو تحقيق المآرب. والأولوية لمن يأتي أولاً.

 

وفي خضم هوجة معلوماتية عن شروط الصندوق وإلمام بحقيقة الأوضاع الاقتصادية، وفورة وطنية تميل إلى الصبر والتحمل لاجتياز عنق الزجاجة، وغضبة اعتراضية تدق على أوتار مشاريع قومية كبرى في توقيتات غير مواتية وأولويات غير واردة، وتهديدات إرهابية تبذل قصارى الجهد لتقويض القوى وإنهاك الهمم علّها تدخل البلاد في دائرة الفوضى الخلاقة، يمتحن الجميع صبر الفقراء، ويختبر الكل قوة احتمال الطبقة المتوسطة في مقاومة الهبوط، ويجتاز الحكم امتحان العلاج وملكات التضميد ومهارات النشوء والارتقاء من العلاجات الجراحية إلى النقاهات الضرورية ومنها إما إلى ممارسة الحياة الطبيعية أو مواجهة خطر العيش بإعاقة أو إعاقة العيش نفسه.

 

وبانتظار النتيجة، يمضي الشعب قدماً في متابعة أسعار العملات، والإطلاع على الذهب هبوطاً وصعوداً، وأداء البورصة خسارة ومكاسب، وصراع الجنيه في مواجهة الدولار.

 

اعلان