خاطرة الجزء الواحد والعشرين
ولقد آتينا لقمان الحكمة.. هل كان الحكيم نبيًّا؟
"وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ" (12 سورة لقمان)
لقمان .. هكذا ورد ذكره في القرآن دون تفصيل، وقد قص الله تعالى علينا من روائع حكمته طرفا أزعم أن فيه مجامع الهداية في الدنيا والنجاة في الآخرة، ولو تدبرنا ما ورد من وصاياه في السورة التي سماها الله باسمه "لقمان" وهو يعظ ابنه لاحتجنا مجلدات نفصل أهميتها وفوائدها.
ولقد صدق ربنا سبحانه وتعالى حين قال "يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا وما يذكر إلا أولو الألباب" (269 سورة البقرة)
فمن هو لقمان
قال القرطبي:
هو لقمان بن باعوراء بن ناحور بن تارح، وهو آزر أبو إبراهيم، كذا نسبه محمد بن إسحاق.
وقيل: هو لقمان بن عنقاء بن سرون وكان نوبيا من أهل أيلة، ذكره السهيلي.
وقال وهب: كان ابن أخت أيوب.. وقال مقاتل: ذكر أنه كان ابن خالة أيوب.
قال الزمخشري: هو لقمان بن باعوراء بن أخت أيوب أو ابن خالته، وقيل كان من أولاد آزر، عاش ألف سنة وأدركه داود عليه الصلاة والسلام وأخذ عنه العلم، وكان يفتي قبل مبعث داود، فلما بعث قطع الفتوى فقيل له، فقال: ألا أكتفي إذ كفيت.
وقال الواقدي: كان قاضيا في بني إسرائيل.
وقال سعيد بن المسيب: كان لقمان أسود من سودان مصر ذا مشافر، أعطاه الله تعالى الحكمة ومنعه النبوة، وعلى هذا جمهور أهل التأويل أنه كان وليا ولم يكن نبيا.
وقال بنبوته عكرمة والشعبي، وعلى هذا تكون الحكمة هي النبوة.
والصواب أنه كان رجلا حكيما بحكمة الله تعالى -وهي الصواب في المعتقدات والفقه في الدين والعقل- قاضيا في بني إسرائيل، أسود مشقق الرجلين ذا مشافر، أي عظيم الشفتين، قاله ابن عباس وغيره.
لقمان يخير بين الحكمة والنبوة
قال القرطبي: روي من حديث ابن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لم يكن لقمان نبيا ولكن كان عبدا كثير التفكر حسن اليقين، أحب الله تعالى فأحبه، فمن عليه بالحكمة، وخيره في أن يجعله خليفة يحكم بالحق، فقال: رب، إن خيرتني قبلت العافية وتركت البلاء، وإن عزمت علي فسمعا وطاعة فإنك ستعصمني، ذكره ابن عطية.
وزاد الثعلبي: فقالت له الملائكة بصوت لا يراهم: لم يا لقمان ؟ قال: لأن الحاكم بأشد المنازل وأكدرها، يغشاه المظلوم من كل مكان، إن يعن فبالحرى أن ينجو، وإن أخطأ أخطأ طريق الجنة، ومن يكن في الدنيا ذليلا فذلك خير من أن يكون فيها شريفا، ومن يختر الدنيا على الآخرة نفته الدنيا ولا يصيب الآخرة. فعجبت الملائكة من حسن منطقه، فنام نومة فأعطي الحكمة فانتبه يتكلم بها.
وروي أن لقمان قيل له: كيف اخترت الحكمة على النبوة وقد خيرك ربك؟ فقال: إنه لو أرسل إلي بالنبوة عزمة لرجوت فيها العون منه، ولكنه خيرني فخفت أن أضعف عن النبوة، فكانت الحكمة أحب إلي.
صنعة لقمان
واختلف في صنعته، فقيل: كان خياطا، قاله سعيد بن المسيب. وقيل: كان راعيا. وقيل: كان نجارا.
مواقف من حكمة لقمان
1) فقال له سيد ذات يوم: اذبح لي شاة وأتني بأطيبها مضغتين، فأتاه باللسان والقلب، فقال له: ما كان فيها شيء أطيب من هذين؟ فسكت، ثم أمره بذبح شاة أخرى ثم قال له: ألق أخبثها مضغتين، فألقى اللسان والقلب، فقال له: أمرتك أن تأتيني بأطيب مضغتين فأتيتني باللسان والقلب، وأمرتك أن تلقي أخبثها فألقيت اللسان والقلب ؟ ! فقال له: إنه ليس شيء أطيب منهما إذا طابا، ولا أخبث منهما إذا خبثا.
قال القرطبي: هذا معناه مرفوع في غير ما حديث، من ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب".
وجاء في اللسان آثار كثيرة صحيحة وشهيرة، منها قوله عليه السلام: "من وقاه الله شر اثنتين ولج الجنة: ما بين لحييه ورجليه..." الحديث.
2) سئل لقمان يوما: أي الناس شر؟ قال: الذي لا يبالي أن رآه الناس مسيئا.
قال القرطبي: وهذا أيضا مرفوع معنى، قال صلى الله عليه وسلم: "كل أمتي معافى إلا المجاهرين وإن من المجاهرة أن يعمل الرجل بالليل عملا ثم يصبح وقد ستره الله فيقول يا فلان عملت البارحة كذا وكذا وقد بات يستره ربه ويصبح يكشف ستر الله عنه" رواه أبو هريرة وأخرجه البخاري.
3) وروي أنه دخل على داود عليه السلام وهو يسرد الدروع، وقد لين الله له الحديد كالطين فأراد أن يسأله، فأدركته الحكمة فسكت، فلما أتمها لبسها وقال: نعم لبوس الحرب أنت. فقال: الصمت حكمة، وقليل فاعله. فقال له داود: بحق ما سميت حكيما.
قال وهب بن منبه: قرأت من حكمة لقمان أرجح من عشرة آلاف باب..