لماذا استشعر صديقي الغربة؟
صديقي الصحفي الشاب الهمام لم أكن أتخيل أن أراه شاحبَ الوجهِ نحيفَ الجسد بهذا الشكل؛ فقد رأيته واقفًا أمام هيئة المحكمة لم أكن أتصور أن يكون مصير صحفي مثله بين أقبية السجون يمضي صفوة شبابه في هذا المكان الكريه.
لم يختلف عنه كثيرًا زميلي المحامي الذي اتصل بي تليفونيًا من خارج البلاد، وحملني بآلام الغربة التي اضطر إليها هربًا من مصير محتوم لكل من يفكر في قول لا في وطن الغربة أو غربة الوطن، كانت في صوته غُصّة أفهمها ودمعة لم أرها، ولكنها انسكبت من صوته بقوله: لا ندري أنحن الغرباء أم الوطن، هو من أصبح غريبًا عنا.
فقد غابت الحرية عن الكثيرين خلال الأحداث التي مرَّت على الوطن في السنوات الثلاث الماضية، والتي أثرت بشكل واضح على تصورات الكثير لفكرة الوطن، فالميثاق الأول للإنسانية وجوهر حياة البشر هي الحرية التي ناضلت من أجلها البشرية منذ فجر التاريخ الإنساني من أجل البحث عنها، وكانت هي الفعل المشترك للإنسانية, فلم يزج بهذا الصحفي في غياهب السجون ولم يفرّ هذا المحامي إلا أنهما لم يجدَا مناخ الحرية يمكنهما من الإبداع والتفكير وخدمة الوطن .
فطبقًا للإحصائيات التي صدرت من المنظمات الحقوقية المحلية والدولية والتي وثقت حالات الاعتقال والاحتجاز في مصر تراوح عدد المعتقلين ما بين 40 إلى 50 ألف مسجون سياسي في مصر، كان العامل المشترك بينهم جميعًا أنهم من الأكاديميين أو أصحاب المهن الحرة وقادة الرأي أو شباب مثقف.
السؤال الجوهري في موقفنا؛ ألا يمكن أن نترك الوطن يستفيد من القامات العلمية والأكاديمية والمهنية المحبوسة خلف الزنازين أو المهاجرة طوعًا أو كرهًا.
أظن أن فتح أبواب السجون لهذه العناصر البشرية أولى في مرحلة حرجة يمر بها الوطن ليعيد الوطن الاستفادة منهم في مشاريع التنمية العلمية والاقتصادية والاجتماعية، ولكن كل هذا لن يتم إلا في مناخ من الحرية التي يتمكن فيها كل مواطن من الإبداع والتفكير الحر الذي يمكنه من تنمية الوطن ليصبح أفضل.
فالناظر لكافة الأمم المتقدمة، يجد أن تقدمها نابع من قدرتها على منح الحرية لأبنائها في التفكير والإبداع وتوجيه طاقاتهم حول بناء وإعمار الوطن.
السجون لم ولن تكون وسيلة لبناء الأوطان, السجون دائما تؤدي إلى شعور الإنسان بغربته عن وطنه بل وعن نفسه.
وحديث الحقوق والحريات لا يتوقف، ولا حركة المدافعين عنه في مصر أيضا، ولذا هناك أهمية أن يتفهم العقلاء في الوطن ضرورة تجاوز الوطن تلك الغربة، حتى يتجاوز المواطن أي كان تلك الغربة أيضا.
إن دور الدولة هام في تأسيس ذلك التغيير الحقيقي المطلوب هذه الفترة، خاصة والجميع يعي ظروف المنطقة، ولا يمكن لعاقل أن يقبل لشخصيات أن تعلو الدولة وتجعلها حكرًا يناهض كل صوت حقوقي، أو يغلق مكاتب قراءة تثرى الكرامة، أو يدافع عن بقاء شباب في السجون، تحت تصورات مناهضة للحوار والإيمان بالتعدد.
إن مخاصمة الدولة للحريات وإغراقها المواطن بانعدامه حقوقه سواء الاقتصادية أو السياسية سيجعله يعيش تلك الغربة الصعبة، التي نأمل تجاوزها سريعًا فالاقتصاد لا يتحمل ماذا من تفريغ الوطن من طاقاته وقدراته في الاتفاق والحوار والبناء.
لا يظن أحد أن بقدرته هزيمة الحق البشري في حياة كريمة وعدالة اجتماعية وقانون عادل ومسار تنمية حقيقي، ولذا لا يغيب عنا جميعًا أهمية أن يبقي صوت الوطن مقدمًا على مصالح ضيقة تخص أفراد أو هيئات أو مؤسسات، لأن بقاء مصر وطنًا حرًا يعيش في الجميع في كنف المساواة والحوار والعدل، هو المأمول والذي يجعلنا نتجاوز أزمات الاقتصاد والسياسة .
ولحين أن يتم ذلك سأظل أسأل سؤالي لماذا استشعر صديقي بالغربة؟ لعل الوقت القريب يجيب عليه ويظهر العقلاء في هذا الكوكب المجنون!
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عزت غنيم
(مدير التنسيقية المصرية للحقوق والحريات)