معاقبة بوكوفا وتكريم بيريز!

كتب: زياد الدريس

فى: مقالات مختارة

19:08 12 أكتوبر 2016

في موقفنا من الغرب، يتجاذبنا تياران متناقضان:

أحدهما لا يرى في الغرب سوى المساوئ والوحشية والانحلال، وأي حديث إيجابي منا عن الغرب ما هو إلا هزيمة نفسية وانخداع وخيانة وخذلان.

التيار الآخر المعاكس، لا يرى في الغرب سوى المحاسن والعدالة الإجتماعية والتعددية، وأي حديث سلبي منا عن الغرب يعدّه ظلامية وجزءاً من أعراض نظرية المؤامرة!

الغرب ما هو إلا تكوين بشري مثل بقية التكوينات البشرية في هذا الكون، يخطئ ويصيب، ويصدق ويكذب، ويستأسد أحياناً ويجبن ويخاف أحياناً أخرى.

سأتحدث اليوم عن مثالين يشيران إلى ضعف الغرب في التمسك ببعض قيمه ومبادئه، وفي ذات الوقت قوته في أن يمرر ما يريد متى اشتهى ذلك.

قبل أكثر من عامين أعلنت السيدة إيرينا بوكوفا المديرة العامة لمنظمة اليونسكو عن رغبتها في الترشح لمنصب الأمين العام للأمم المتحدة خلفاً للسيد بان كي مون الذي تنتهي ولايته في نهاية العام ٢٠١٦. وقد استفادت السيدة بوكوفا من إيجابيتين ستخدمها في مشوارها للترشح لهذا المنصب، الأولى أن الدور هذه المرة هو لأوروبا الشرقية التي لم يسبق لأحد أبنائها الفوز بهذا المنصب منذ أن تأسست الأمم المتحدة في العام ١٩٤٥. والأمر الثاني أنه لم يسبق لأي سيدة أن تسنمت هذا المنصب الدولي الرفيع أيضاً منذ تأسيس هذه المنظمة الدولية.

وكون السيدة بوكوفا من دولة بلغاريا (أوروبا الشرقية) وأنها سيدة، فقد فتح هذا الأمر التوقعات الواسعة لإمكانية حصولها فعليّاً على المنصب وبسهولة. لكن الذي كان يدور في أروقة اليونسكو هو أن عائقاً قد لا يفتح لها أبواب المنظمة الدولية في نيويورك، ونعني به قرار منظمة اليونسكو في العام ٢٠١١ منح العضوية الكاملة لدولة فلسطين كأول عضوية كاملة في منظمة دولية على هذا المستوى. والكل يعرف ردود الفعل القوية التي اتخذتها الولايات المتحدة تجاه ذلك القرار بإيقاف مساهمتها، كما تبعتها دول أخرى أيضاً في هذه العقوبة للمنظمة الدولية، وما زالت اليونسكو تعاني من هذه العقوبات منذ العام ٢٠١١ جرّاء قرارها الديموقراطي الذي اتخذته حينذاك. لكن الذي ربما نسيه البعض هو أن هناك طرفاً آخر ينبغي أيضاً أن يُعاقَب، مع منظمة اليونسكو، هو المدير العام لليونسكو الذي كان يمكن أن يساهم في عرقلة ذلك القرار أو تأخيره إن لم يكن قادراً على منعه.

بالفعل كانت السيدة إيرينا بوكوفا مهددة في مشوارها الفنتخابي نحو منصب الأمين العام للأمم المتحدة بأن تلقى العقوبة الرادعة لمساهمتها في ذلك القرار المنحاز للإرادة العربية ضد الإرادة الإسرائيلية وبالتالي ضد الإرادة الغربية. وقد دارت اشاعات كثيرة بأن الغرب لن يسمح لهذه السيدة أن تتولى هذا المنصب الدولي الرفيع في الأمم المتحدة أولاً لأن لا ضمانات بأن لا تكرر التجربة في الأمم المتحدة وتسمح للوجود الفلسطيني بأن يتعاظم، وثانياً حتى يرتدع غيرها عن السباحة ضد تيار القوى المتنفذة في العالم.

استبعد كثيرون احتمال معاقبة السيدة بوكوفا وحرمانها من منصب الأمين العام للأمم المتحدة، وكنت أحد الذين استبعدوا هذا الاحتمال انطلاقاً من تفسيرات أخرى ليس هذا محل سردها الآن، لكننا بعد ذلك وأثناء السباق الإنتخابي رأينا كيف جيء من خلف الصفوف بمرشح (رجل) ومن (أوروبا الغربية) ليختطف المنصب من المرأة الأوروبية الشرقية!

يمكن البعض أن يقول إن هزيمة إيرينا بوكوفا هي نتيجة لبعض الإخفاقات المالية والإدارية في اليونسكو، التي قد لا يستطيع حتى داعمو السيدة بوكوفا والمتعاطفون معها إنكارها، لكن هل كان هذا يوماً معياراً لاختيار غيرها؟

لقد تنازل الغرب عن قيمة أساسية عنده هي مسألة المساواة بين الجنسين (الجندرة) وأهمية تمكين المرأة، وعلى رغم ذلك وبعد أن تقدمت امرأة لهذا المنصب واقتربت كثيراً من هذا الكرسي للمرة الأولى طوال أكثر من ٧٠ عاماً، تغاضى الغرب عن هذه القيمة التي ظل ينادي بها لسنوات، فقط كي ينفّذ عقوبته.

النموذج الآخر من الانحياز، هو قرار رئيس المجلس التنفيذي لليونسكو (الألماني) بأن دورة المجلس التنفيذي الجديدة، الأسبوع الماضي، ستفتتح بجلسة مخصصة لتأبين الرئيس الإسرائيلي الراحل شيمون بيريز.

لم نستطع نحن الدول العربية في منظمة اليونسكو أن نحصل على حقنا المشروع في الإمساك بمبررات كافية لهذا التأبين، فاليونسكو عادة لا تؤبن كل رئيس دولة يموت. واليونسكو عادة لا تؤبن أيضاً كل من فاز بجائزة السلام، فهي لم تؤبن الرئيس الراحل ياسر عرفات الذي فاز بجائزة السلام باستحقاق. وهي لا تؤبن الذين ساهموا في مبادرات السلام في شأن المنطقة العربية، فهي لم تؤبن الملك الراحل عبدالله بن عبدالعزيز الذي حمل المبادرة العربية للسلام لسنوات طويلة قبل أن يرحل منذ عامين. وهي لم تؤبن الذين كافحوا العنف بمنتهى السلمية أيضاً، فهي لم تؤبن القائد والزعيم الخالد نيلسون منديلا. أمام هذه النماذج الفاخرة ونماذج أخرى كثيرة مماثلة، كان لا بد أن نتسائل: لماذا يتم تأبين شيمون بيريز الذي اشتهر بجرائم الحرب الذي خاضها بنفسه أو التي أشرف على تنفيذها من بعد، كما اشتهر خلال مشاركته في قيادة الكيان الاسرائيلي بأعمال وأفعال كانت مناهضة تماماً لقيم اليونسكو في شأن التسامح والسلام وتعزيز العيش المشترك والعيش المتبادل، فلماذا تؤبنه اليونسكو وتحت أي عذر أو مسوغ أخلاقيّ لهذا التأبين؟!

معاقبة بوكوفا في الأمم المتحدة وتكريم بيريز في منظمة اليونسكو نموذجان جليّان للتأكيد على ازدواجية المعايير الدولية، وأنه من السذاجة تصديق كل الشعارات التي ترفعها المنظمات الدولية تحت مظلة حقوق الإنسان أو العدالة الدولية والمساواة.

* كاتب سعودي

 

نقلا عن الحياة

اعلان