الحرب لن تنتهي في الموصل... وضحايا الأمس طغاة الغد

كتب: كريستوف رويتر

فى: مقالات مختارة

18:59 09 نوفمبر 2016

الأزيز يكاد لا ينقطع. وفي بعض اللحظات يخبو قبل أن يرتفع ولكنه لا يتبدد: هو صوت المقاتلات الجوية الأميركية التي تحوم فوق ميدان المعارك. والهدوء يعم المكان «على البر». ففي اليومين الماضيين لم يتحرك شيء هناك، يشير قائد الكتيبة السابعة في البيشمركة الكردية المنتشرة في منطقة مشرفة على قرية فضيلة، شمال شرقي الموصل. ويفضي كردستان العراق الى سلسلة تلال قاحلة، وقرية فضيلة تقع في أسفل التلة الأخيرة في مقدم السهل. قبل يومين كان تنظيم «داعش» يطلق قذائف من البلدة، وكانت قوات البيشمركة والمقاتلات الجوية ترد. واتجه ثلاثة انتحاريين داعشيين نحو صفوف المعسكر الآخر في سيارات ملغمة، ولكن السيارات هذه انفجرت قبل أن تبلغ هدفها. ومذّاك الهدوء يلف المكان. والرايات البيضاء ترفرف على كثير من منازل البلدة، ولكن الشوارع مقفرة وكأن البلدة فارقت الحياة. ويقول اللفتانت (الملازم) الكردي عمّار، وهو على رأس كتيبة من حوالى 50 رجلاً، إن الهدوء هو فخ نصب لهم لاستدراجهم. ثم يصيح أحد رجاله ممن يراقبون البلدة بواسطة مناظير: «انهم يهربون!». وأول الأمر لا يرى المرء غير غبار، وحين يمعن النظر يرى ثلاثة رعاة مع أغنامهم يمشون في مشهد قمري مقفر وقاحل. وخطواتهم بالغة البطء، وحولهم نقاط سود وبيض تمشي في محيط رمادي أصفر، والسماء من اللون نفسه. والمشهد سوريالي. ولكن يبدو أنهم آتون من بلدة أبعد الى الغرب وليس من فضيلة. ويتنقل الرعاة بين جبهات الحرب الدائرة وكأنها لا تعنيهم، على رغم انهم يمشون في حقل من الألغام. والرعاة أطفال، يقول أكبرهم إنهم غادروا بلدة واقعة على بعد نهار من المشي. وهم شدوا الرحال حين تأكدوا أن الداعشيين تركوا المحلة. والشاب عمر مولود في 2002، وشقيقاه، تباعاً، في الثالثة عشرة والحادية عشرة من العمر. «قبل عامين، حين دخل الغرباء الى بلدتنا، كنا في مكان قصي نرعى الحيوانات. ولم يبلغنا ما حصل، وعدنا أعقابنا الى القرية ولم نجد أحداً. فأهلنا شأن أهالي البلدة فرّوا. ولكن نحن عدنا بعد فوات الأوان، ولم يكن أمامنا غير البقاء... لم يكن لنا علاقة بـ «داعش». وحين وصل مقاتلو التنظيم فرضوا قوانين متشددة. ولكنني لا اذكر ما أرادوا. كل ما أعرفه انني إذا ارتكبت خطأ ما يقطعون رأسي. وهذا كان خوفي الأكبر».

ومنذ حوالى أسبوعين، تسير قوات البيشمركة الكردية وجنود الجيش العراقي وميليشيات عراقية نحو الموصل، والأميركيون يدعمونهم. ولكن الحملة تتعثر. فـ «الإسلاميون» يقاومون. والمقاتلات الجوية المتطورة الألياف البصرية تقع في غشاء سحب عملاقة رمادية مسودة اللون تتصاعد من حرائق أشعلها مقاتلو «داعش» في آبار نفطية وإطارات وفي جزء من معمل كبريت في شرق جنوبي الموصل. وطوال أيام، لم يسع الجنود الخروج من مراكزهم إلا وهم مزودون بأقنعة غاز. وعدد الاقنعة لا يكفي الجنود كلهم. ومعظم مقاتلي التحالف لا يسقط في المعارك، بل اثناء قيادة المركبات أو فتح باب السيارة أو حين يلتقطون ساعة مرمية على جانب الطريق. فهم يسقطون على وقع آلاف الألغام والاشراك الملغومة التي زرعها «داعش» في الأشهر الأخيرة. وحين تقدمت قوات التحالف، شن التنظيم هجمات في أماكن أخرى، في كركوك مثلاً او الرطبة.

وليس من اليسير متابعة ما يجري في هذه المعركة الفوضوية، ولو شغل المرء مناصب قيادية عالية في الجيش. ففي بعض الأوقات، يُعلن تحرير أمكنة قبل تحريرها الفعلي. فالسبت الماضي، قيل إن بلدة مسيحية صغيرة، برطلة، صارت في يد الجيش العراقي. ولكن صباح اليوم التالي، تبين أن البلدة لم تحرر بعد. وطوال ساعات، كانت أصوات الانفجارات تتردد في مشارف المدينة، في وقت كان لسان حال ضباط غير مأذونين في «الفرقة الذهبية» في الجيش أن الوضع سيكون تحت السيطرة بعد نصف ساعة. وقال هؤلاء إن ما أغفلوه حين إعلان تحرير برطلة هو مرابطة بعض وحدات «داعش» على تخوم البلدة.

ويتساءل رجال الملازم عمّار عما سيفعله مقاتلو التنظيم على مقربة من فضيلة. فبعد ساعات من السكينة والهدوء، تقدمت دبابتان قديمتان من الفرقة الكردية الى حزام الحدائق المحيط بالبلدة، ثم عادت أدراجها. ولم تُطلق عليهما طلقة رصاص. «نخشى الحدائق هذه، فأي شيء قد يصدر منها». وكل من سائقي الدبابتين هز رأسه قليلاً حين سؤاله إذا ما كان يشعر بالخوف. وحيدر في التاسعة والأربعين، وجابر في الخامسة والأربعين، ودبابتيهما تفوقهما سناً، فهما من طراز تي-62 السوفياتي. ويشير حيدر الى ثقب رصاصة في الدبابة، ويقول انه من 1986، «من الجبهة الإيرانية». «الخوف، لا»، يجيب من غير انفعال. «ففي العراق، الموت عادي. ومنذ الثمانينات، تدور رحى الحروب. وشاركت فيها على الدوام». فهو وجابر يقودان الدبابات منذ 30 عاماً. والنجاة كتبت لهما الى اليوم ولكنهما قد يلقيا حتفهما. ونهار الخميس، حررت فضيلة. ولكن إثر كل الحروب في العراق، والموتى المنسيين الذين سقطوا في الثمانينات والتسعينات على الجبهة الايرانية والجبهة الكويتية وفي كردستان العراق وفي أصقاع البلاد كلها ما بعد 2003، لا يخفى العراقيون كلهم أن ضحايا الأمس هم طغاة الغد. ولسان حال العراقيين هو أن الموت عادي في العراق. لماذا؟ «يبدو أن هذا مصير البلد. نحن متوحشون مع بعضنا»، يقول حيدر. وهو على قناعة بأن هزيمة «داعش» في الموصل لن تنهي الحرب. فجور المنتصرين واختلافهم في الرأي حول من يتسلم المدينة في المستقبل سيفتتحان المعركة المقبلة في الحرب اللامتناهية: الأكراد ضد الميليشيات الشيعية، العراقيون ضد الجيش العراقي. «من يعرف؟» يرفع كتفيه مقاتل ثالث وهو يشارك في الحديث. ويقول جابر، إن دبابته المعمرة، عمرها 54 سنة، ستشارك في الحرب المقبلة. فالسلاح السوفياتي «يدوم الى الأبد».

على حاجز البيشمركة بين تلتين، على حدود «الخلافة»، ظهر الرعاة من جديد. وفي البداية، لم يلاحظهم أحد، ثم ركض خلفهم رجال يرتدون ثياب قتال، وسأل أحدهم عمر، الأكبر سناً، «هل كنت مع داعش». ينفي قائلاً لا سيدي. كنت أرعى القطيع. وبعد تكرار السؤال، ألقي القبض عليه. وسمح لشقيقيه بمتابعة طريقهما. فتوجها الى التلال على بعد كيلومترين او ثلاثة كلم مع القطيع، وكانا يظهران في الأفق الى أن تبدد أثرهما. وبعد ساعة، وجد رجلان كرديان قطيع الشقيقين يطوف المراعي، وعادوا به الى الحاجز. ولم يجدا أثراً للراعيين الصغيرين. وقرية سندانا التي قال الأخ الأكبر، عمر، انها وجهتهم، غير معروفة في المنطقة. ويقول لاجئون ومقاتلو بيشمركة أن لا مكان يحمل الاسم هذا في الجوار. فتبددت صورة الرعاة الثلاثة وكأنها سراب. من كانوا؟ وهل هم فعلاً مع «داعش»؟

 

نقلا عن الحياة

اعلان