من يخاف من اللغة العربية؟
بمناسبة احتفال اليونيسكو باليوم العالمي للغة العربية في 18 ديسمبر، يجدر التذكير بأن اللغة العربية جزء لا يتجزأ من التراث في فرنسا.
غالباً ما يكتسي الجدل حول اللغات طابعاً أيديولوجياً يخدم مصالح سياسية، ففي حين يسعى الاستعمار إلى تقليص اللغة الأم في المستعمرة لإحكام سيطرته يلجأ حكام الجنوب أحياناً، بحجة مناهضته، إلى إقصاء اللغات الأجنبية، بما يفقر الشعب ويجعل الاتصال بالعالم حكراً على النظام.
والجدال الأخير الذي احتدم في فرنسا حول اللغة العربية و «مخاطر تدريسها» المزعومة في المدارس الحكومية، ينطبق عليه هذا الاستغلال السياسي لمآرب انتخابية.
وقد هبّ مثقفون فرنسيين يفندون هذه المزاعم. إلا أن محاربة اللغة العربية استمرت بشكل خفي، عبر مقولة جديدة على لسان السياسيين، من يمين ويسار، بعد الاعتداءات الإرهابية: «لا بد من حظر استخدام العربية في مساجد فرنسا». قد يبدو الأمر منطقياً للوهلة الأولى، من باب السعي لرصد وملاحقة المتطرفين، إلا أن تكرار مثل هذا الكلام على مسامع الفرنسيين يولد مغالطات فكرية: أولها الخلط بشكل عفوي بين الإرهاب والإسلام برمته، فالإشارة تشمل «مساجد فرنسا»، وكأن جميعها أوكار محتملة للإرهاب، في حين تبين الدراسات أن استدراج الشباب يتم غالباً عبر الإنترنت أو السجون الفرنسية. ومن المثير للقلق اليوم أن يصبح مجرد الكلام عن «مسجد كبير في مدينة بوردو» كافياً لشن حملة شعواء على ألان جوبيه، والإطاحة به على رغم شعبيته في الانتخابات الأولية لليمين، لمجرد أنه كان ينادي بلم شمل الفرنسيين أجمعين في بوتقة واحدة.
وهناك خلط بين اللغة والطائفة، فالمسلمون في العالم ليسوا جميعاً عرباً، كما أن سكان العالم العربي ليسوا جميعاً مسلمين. أما الهدف، فهو استعداء «الآخر»، الوافد، المهاجر، فما بالك إذا اجتمعت الصفتان في الشخص الواحد فتكتمل مقومات وصمه بالـ «عدو الداخلي»، يستقطب كل الحقد، فلا مساءلة بعد ذلك للمسؤوليات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية حول أسباب الإرهاب.
وجود تيار التطرف الإسلامي لا يبرر التشويه الإعلامي لصورة اللغة العربية بهذه المقولة المتكررة، فالأجهزة الأمنية لديها كل وسائل التنصت والترجمة. فهل تمنع الانجليزية في الكنائس الإنجيلية في فرنسا؟ وهل تحظر الروسية في الكنائس الأرثوذوكسية؟ ما الداعي لاستهداف اللغة العربية دون سواها وهي التي ولدت قبل بزوغ الإسلام أساساً؟ لا شك في أن القرآن سما بها إلى جلال لغوي بلغ حد الإعجاز، وساهم في صونها عبر الزمن، إلا أن هذه اللغة قامت بأدوار متعددة أخرى عبر التاريخ، فكانت راية لحركة النهضة العربية في الشرق الأوسط في القرن التاسع عشر، حملها مفكرون متعددو الطوائف، لا سيما من المسيحيين.
ولو سلمنا جدلاً بأن لا داعي لتدريس العربية في المدارس، فلا بد إذن من تعزيز مواد أخرى: كمبادئ المنطق مثلاً، حيث لا يمكن في الوقت ذاته التأكيد على فصل الدين عن الدولة والتدخل في الشأن اللغوي للطوائف. وتدريس التاريخ، بحيث يكتشف التلاميذ وجود العربية في فرنسا منذ إنشاء الملك هنري الثالث في 1587 منصباً ثابتاً لتدريسها في المعهد العالي «كوليج دو فرانس»، طبقاً لرغبة الملك فرانسوا الأول بإدخال اللغات الشرقية إلى التعليم. كما يستحسن تدريس اللغات الأوروبية المقارنة، لرصد قرابة 2500 كلمة عربية الأصل تدل على دور العرب في إثراء العلوم والرياضيات، كما لا بد من تدريس علوم الأحياء، التي تثبت أن تعليم الطفل لغات عدة منذ الصغر ينمي قدراته العقلية.
فالحمائية في مجال اللغة، أكانت بدافع من الخوف على الهوية أم الحنين الى فترة الإمبراطورية الغابرة، كارثة في زمن العولمة. فكيف نفسر المرتبة المتخلفة لفرنسا في الإنكليزية، بحسب التقرير الأخير لمنظمة «أيديوكيشن فورست». فهل يعقل أن يتم الترويج للفرانكوفونية كفلسفة التنوع الثقافي في العالم، وأن يتم الانطواء على الذات في الداخل؟
صدق الرئيس جاك شيراك حين قال في الرياض أمام مجلس الشورى عام 2006، إنه ما من «صدام بين الحضارات» بل الصدام هو بين الجهلة، فالإنسان عدو ما يجهل، لذا فلقد خصص معهد العالم العربي ندوة فكرية في 13 ديسمبر حول «العربية لغة عالمية»، في إطار أسبوع كامل من الاحتفالات باللغة.