فهمي هويدي يكتب:

رائحة يناير وصدى التحرير

كتب: نقلا عن صحيفة الشروق المصرية

فى: مقالات مختارة

11:12 18 يناير 2017

الحكم التاريخى الذى أصدره المستشار أحمد الشاذلى رئيس المحكمة الإدارية العليا وقرر فيه مصرية الجزيرتين كان مفاجأة الأسبوع حقا. لكن أصداءه لم تخل من مفاجأة أيضا. صحيح أنه عزز ثقتنا وضاعف من احترامنا لقضاء مجلس الدولة، حتى تمنينا أن نستعيد الثقة ذاتها فى بقية الهيئات القضائية، إلا أنه أيضا نبهنا إلى أن المجتمع ليس بالوهن والاستخذاء الذى يلوح فى بعض المواقف التى استخلصت من الناس أسوأ ما فيهم.


منذ زمن لم نسمع أصوات حشود جموع المصريين وهى تنشد بلادى بلادى لك حبى وفؤادى، ومنذ زمن لم يتردد فى الفضاء المصرى هتاف «عيش حرية»، ولم نر غابة الأذرع التى ملأت الأفق ملوحة بعلامة النصر الشهيرة. وكان مستغربا أن تطل الفرحة الغامرة من كل الوجوه، وأن يعيش الجميع لحظة حماس وتفاعل اختفت فيها كل التمايزات والهويات.


كان مستغربا أن تهتف الجماهير دون أن تضرب أو تسحل أو تدفع فى عربات الشرطة. حتى إننى حين تابعت تسجيل التظاهرة توقعت أن تنهال على الحشد قنابل الغاز أو تستهدفهم خراطيم المياه فى أى لحظة، وظللت أنتظر لقطة الانقضاض على المتظاهرين وركضهم صوب الشوارع الجانبية قبل اصطيادهم. ولم أصدق عينَىَّ حين رأيت رجال الشرطة وقد وقفوا وسط الجميع حائرين، لا متنمرين أو مكشرين، فى وضع لم يألفوه ولا توقعناه فى مثل هذه المناسبات.


كنا قد نسينا كل تلك المشاهد، حتى بدا أننا استسلمنا للهزيمة بعدما تراجعت أشواقنا وتبخرت أحلامنا واحدا تلو الآخر. إلا أن ما جرى جاء كاشفا عن أن بيننا وفينا ما يستحق أن نراهن عليه ونتعلق به. وأن سحابة القنوط والحزن المخيمة تعبر عن لحظة مكثفة لا عن حالة دائمة. وهو ما شهدت به الصور التى تلاحقت وعبر عنها الحشد فى أعقاب نطق الحكم الذى فجر المشاعر المكبوتة.


لم نهنأ بتلك التداعيات طويلا، لأنه ما إن حل المساء حتى أدركنا أن الذى شاهدناه كان جزءا من الحلم ولم يكن جزءا من الواقع. وتنبهنا إلى أن ما جرى فى قاعة المحكمة وأمامها كان لحظة خارج السيطرة. فالذين هتفوا ورددوا النشيد ولوحوا بعلامات النصر كانوا من خارج المنظومة التى تشكل الإدراك وتتلقى تعليمات التوجيه المعنوى، فى المساء كانت الآلة الإعلامية قد تحركت، وصار الحدث هو الموضوع الأساسى للبرامج الحوارية والكتائب الإلكترونية الأمنجية، التى تلقت التعليمات والتوجيهات، وأريد لها أن تزيل آثار الفرحة وتثبط المتحمسين، بحيث تذكر الجميع بأن ما اعتبرناه لحظة قنوط مكثفة هو الأصل وكل ما عداها استثناء. وهو موقف عبرت عنه فتاوى بعض ترزية القوانين واختصره التعليق التالى: جولة على التايم لاين: معظم الذين فرحوا بالحكم أشكال وسخة شمتانة فى الدولة، أو أشكال أوسخ فرحانة فى السيسى، أو مرضى نفسيون مختلون ومعروفون بالاسم (!).


فى المشهد الذى استغرق عدة ساعات يوم الاثنين الماضى رائحة يناير ٢٠١١ بقدر ما أن قاعة المحكمة بدت صدى لميدان التحرير، فى حين أن أصوات المساء كانت تُسمع فيها الثورة المضادة والانقلاب على الحلم الذى انتظرته مصر طويلا. وإذا بدا أن ذلك من قبيل التخيلات والتمنيات إلا أنه لا يلغى حقائق عدة أبرزها المشهد الذى تابعناه حيا، أهمها أن الحلم لم يجهض تماما، وأن حملة ذلك الحلم ضربوا وانكسروا لكنهم لم يستسلموا ولم ينبطحوا. بالتالى فإنهم لم يموتوا. وإذا كانوا قد حجبوا أو اختفوا إلا أنهم لم يندثروا.


الحقيقة الثانية أن فى مصر صفا وطنيا آفته التقاطع والتشرذم. لا نجاة له أو للوطن إلا فى التشبث بما هو مشترك الذى لا يجوز فيه الاختلاف، وقد كانت قضية الجزيرتين نموذجا لذلك، جمع الأضداد وأنساهم خلافاتهم ومراراتهم.


الحقيقة الثالثة أن لحظة اليأس هى لحظة الانتصار النهائى للثورة المضادة، وان الالتفاف حول شعاعات الأمل وإن ذبلت صار الخيار الوحيد الذى يتعين التعلق به لإنقاذ المستقبل. ليتنا نتعلم الدرس ونستوعب العبرة.

 

اعلان