هل حكم تيران وصنافير يغلق الملف؟ تاريخ القضاء الإداري يجيب
استيقظت مصر صباح يوم الاثنين الموافق السادس عشر من يناير/كانون الثاني لعام 2017، على الحكم النهائي البات للمحكمة الإدارية العليا (الدائرة الأولى- فحص الطعون) برفض الطعن الذي قدمته الحكومة على حكم محكمة القضاء الإداري ببطلان توقيع اتفاقية ترسيم الحدود البحرية مع السعودية، التي تضمنت نقل تبعية جزيرتي تيران وصنافير بالبحر الأحمر إلى المملكة، والصادر في يونيو/حزيران 2016.
شكوك حول دور البرلمان
وقد ارتقى مجلس الدولة المصري بهذا الحكم لقدر مسئولياته التاريخية باعتباره حصن الحقوق والحريات وقبلة المستضعفين وملاذ المظلومين، والحامي من تعسف جهة الإدارة كما سنرى من استعراض بعض الأحكام التاريخية لمجلس الدولة؛ والتي انتصر فيها للحقوق والحريات ضد تعسف الدولة أو إسائتها لاستخدام السلطات الموكلة إليها.
بالرغم من أن حكم الإدارية العليا يعتبر نهائيًا وباتًا، إلا أن ردود الفعل الأولية عليه توضح بما لا يدع مجالًا للشك أن الموضوع لا زال بعيدًا عن الحسم، وهذا في ظل تحويل الحكومة الاتفاقية إلى البرلمان لنظرها واعتمادها، وهذا قبل أيام معدودة من صدور حكم الإدارية العليا.
ويزيد من هذا التوقع إصدار ائتلاف دعم مصر وهو ائتلاف الأغلبية بالبرلمان بيانا للتعليق على الحكم يؤكد فيه أن:
"الاختصاص الدستوري بتقرير طريقة إقرار الاتفاقية أو كونها مخالفة لأحكام الدستور أو تتضمن تنازلا عن الأراضي المصرية، منعقد للبرلمان".
وأن القرار في النهاية سيكون للبرلمان ولن يغير من هذه الحقيقة حكم الإدارية العليا.
وفيما يلي سنتعرض لسوابق قضائية لمجس الدولة انتصر فيها للمواطن في مواجهة الدولة، وأعمل في أحدها نظرية أعمال السيادة ليمتنع عن نظر الأمر، ويلي ذلك التعرض للنزاع القضائي حول الجزيرتين والاتفاقية الجديدة، ثم نختم بسيناريوهات الأيام القادمة في تلك الأزمة.
القضاء الإداري المصري وقرارات الدولة المطعون عليها
تذبذب نهج القضاء الإداري المصري في مواجهة قرارات الدولة المطعون عليها بين إبطال تلك القرارات بصورة نهائية أو إبطال بعض بنودها أو الحكم بعدم الاختصاص بنظر الأمر المطعون عليه، لتعلقه بأعمال السيادة التي تستأثر الدولة بممارستها ولا يمتد إليها سلطان القضاء.
وقد مثل الطعن على قرار وزارة البترول بتصدير الغاز لإسرائيل أحد حلقات هذا التذبذب، ففي حين قضت محكمة القضاء الإداري في نوفمبر/تشرين الثاني 2008 بوقف قرار وزارة البترول بتصدير الغاز الطبيعي إلى إسرائيل، بموجب الاتفاق الذي تم توقيعه يوم 30 يونيو/حزيران 2005 مع شركة غاز شرق المتوسط لإمداد إسرائيل بـ1.7 مليار متر مكعب من الغاز سنويا على مدى 15 عامًا، إلا أن المحكمة الإدارية العليا قد قضت في فبراير/شباط 2010 في الطعن الذي قدمته الحكومة على الحكم السابق بعدم اختصاص القضاء بنظر الطعن على قرار الحكومة المصرية بتصدير الغاز المصري إلى إسرائيل، باعتباره عملًا من أعمال السيادة.
ولكن ألزمت المحكمة الحكومة بوضع آلية لتحديد كمية وسعر تصدير الغاز المصري إلى الخارج والقيام بمراجعة دورية؛ للتأكد من اكتفاء السوق المحلية من المشتقات البترولية قبل التصدير.
وبالتالي فإن المحكمة وإن كانت قد استبعدت وقف تنفيذ القرار، إلا أنها قد ألزمت الدولة بالعدول عن البنود التي تمثل افتئاتاً على حق الشعب في اتفاق اقتصادي عادل، وهي هنا قد اتخذت موقفًا وسطًا فيما يتعلق بنظرية أعمال السيادة فلا هي اعتبرت القرار عملًا إداريًا بحتًا يخضع بالكلية لرقابة القضاء الإداري وبالتالي يمكن وقف تنفيذه وإبطاله، ولا هي اعتبرته عملًا سياديًا خالصًا لا تمتد إليه رقابتها على الإطلاق، وإنما هي نأت بنفسها عن وقف تنفيذ القرار كليًا مع الاحتفاظ بحقها في الرقابة على بعض بنوده والتي احتوت عسفًا أو جورًا على حقوق المواطنين.
وبعيدًا عن نظرية أعمال السيادة فقد اشتهر مجلس الدولة المصري بأحكامه التي كانت في أغلب الأحيان تنتصر للمواطنين في مواجهة عسف السلطة أو جور الدولة، ومن تلك الأحكام على سبيل المثال لا الحصر حكم الإدارية العليا النهائي بطرد الحرس الجامعي التابع لوزارة الداخلية من الجامعات المصرية الصادر في أكتوبر 2010، من قبله حكم الإدارية العليا بإلزام الحكومة بوضع حد أدنى للأجور في مارس/آذار 2010.
وقد استمر هذا النهج بعد ثورة يناير/كانون الثاني 2011، فكانت الأحكام التاريخية بحل الحزب الوطني، والمجالس المحلية، وكذلك حكم حل الجمعية التأسيسية الأولى لدستور 2012، وغيرها عشرات الأحكام على امتداد عمر مجلس الدولة، والتي أخذ فيها جانب المواطن في مواجهة الدولة وانتصر فيها للحقوق والحريات بأنواعها ومشاربها المختلفة، وبالتالي لم يكن مستغربًا على المحكمة الإدارية العليا أن تصدر حكمها ببطلان اتفاقية ترسيم الحدود مع المملكة السعودية لتضيف إلى سجلها انتصارًا جديدًا، ولتؤسس لفقه قانوني جديد يتجاوز نظرية أعمال السيادة بصورتها التقليدية، والتي كانت تغل يد القضاء الإداري عن نظر كثير من أعمال السلطة السياسية مستندة في ذلك إلى نصوص الدستور الجديد.
النزاع القضائي حول اتفاقية ترسيم الحدود البحرية
قضت محكمة القضاء الإداري (الدائرة الأولى) في جلستها المنعقدة في 21 يونيو/حزيران 2016:
ببطلان توقيع ممثل الحكومة المصرية على اتفاقية ترسيم الحدود البحرية بين جمهورية مصر العربية والمملكة العربية السعودية الموقعة في أبريل سنة 2116 المتضمنة؛ التنازل عن جزيرتي تيران وصنافير للمملكة العربية السعودية مع ما يترتب على ذلك من آثار أخصها استمرار هاتين الجزيرتين ضمن الإقليم البري المصري، وضمن حدود الدولة المصرية واستمرار السيادة المصرية عليهما وحظر تغيير وصفهما بأي شكل لصالح أية دولة أخرى».
ومثل هذا الحكم الحلقة الأولى من النزاع القضائي حول أحقية القضاء الإداري بنظر الاتفاقية باعتبارها عملًا من أعمال السيادة، وفق ما أورده دفاع الحكومة في تلك القضية، فقد رفضت المحكمة الدفع بعدم اختصاصها ولائيًا بنظر القضية، وقضت ببطلان الاتفاق كما أسلفنا الذكر. وقد أسست المحكمة قضاءها على مخالفة الاتفاقية وتصادمها مع المادة 151 من دستور 2014، والتي تحظر إبرام أي اتفاق يتضمن التنازل عن أي جزء من الإقليم المصري.
وفي السادس عشر من يناير 2016 أكدت المحكمة الإدارية العليا في حكمها على الطعن الذي قدمته الحكومة؛ أن إبرام الحكومة لاتفاقية دولية يترتب عليها تنازلًا عن جزء من أراضي الدولة لا يعتبر أحد أعمال السيادة التي لا يمتد إليها سلطان القضاء، بل أنها زادت بالقول بأن مجلس النواب – وهو الجهة المعنية بالموافقة على المعاهدات التي تبرمها الحكومة – لم يعد له أن ينظر الاتفاقية لأنها يشوبها عدم المشروعية من الأساس، وأن إقدام أي من السلطتين التشريعية أو التنفيذية على مخالفة الحظر الذي تقرره المادة 151 يصبح هو والعدم سواء.
وأضافت المحكمة في تسبيب حكمها أنه: «لا يسوغ للسلطة التنفيذية إجراء عمل أو تصرف ما محظور دستورياً….. ولا يكون لها التذرع بأن عملها مندرج ضمن أعمال السيادة، إذ لا يسوغ لها أن تتدثر بهذا الدفع لتخفي اعتداء وقع منها على أحكام الدستور، وعلى وجه يمثل إهدارًا لإرادة الشعب مصدر السلطات، وإلا غدت أعمال السيادة بابًا واسعًا للنيل من فكرة سيادة الشعب وثوابته الدستورية وسبيلًا منحرفً للخروج عليها وهو أمر غير سائغ البته».
ويسهب الحكم في التأسيس لمصرية الجزيرتين محل النزاع باستعراض العديد من الوثائق والخرائط التاريخية، فضلًا عن عدد من الوقائع التي مارست فيها مصر سيادتها على الجزيرتين والممر الملاحي الذي يطلان عليه، وما ترتب على تلك الوقائع من قبول الدول المعنية بممارسة مصر لسيادتها على الجزيرتين باعتبارهما أراضٍ مصرية خالصة.
سيناريوهات تنفيذ الحكم
في ضوء تصريح المستشار رفيق شريف، نائب رئيس هيئة قضايا الدولة والمسؤول عن قضية تيران وصنافير قبل صدور حكم الإدارية العليا النهائي بأن:
"أيًا ما كان ما سيصدر عن المحكمة الإدارية العليا لن يؤثر على دور البرلمان في مناقشة الاتفاقية وإبداء موقفه منها لأن الدستور أعطاه وحده سلطة الموافقة على الاتفاقيات الدولية أو رفضها".
وفي ضوء تصريح ائتلاف دعم مصر الذي يحوز أغلبية برلمانية داخل مجلس النواب باعتزامه التمسك بأحقية البرلمان في نظر الاتفاقية؛ وفقًا لمبدأ الفصل بين السلطات فإنه يمكن الحديث عن ثلاثة سيناريوهات محتملة لتطور الأزمة.
السيناريو الأول هو تمسك مجلس النواب بنظر المعاهدة وقيامه بالموافقة عليها باعتبارها معاهدة عادية تخضع للفقرة الأولى من المادة 151 من الدستور، وتقتضي موافقة المجلس عليها ومن ثم التصديق عليها من رئيس الجمهورية، ولكن يظل هذا السيناريو مستبعدًا للغاية – إن لم يكن مستحيلًا – لأنه سيمثل تعارضًا صريحًا مع الفقرتين الثانية والثالثة من المادة 151، والتي تشطرت أولاهما إجراء استفتاء على المعاهدات التي تتعلق بحقوق السيادة كشرط مسبق للتصديق عليها بعد إعلان نتيجة الاستفتاء بالموافقة، في حين تمنع الفقرة الثالثة بالكلية إبرام أية معاهدات تخالف أحكام الدستور، أو يترتب عليها التنازل عن أي جزء من إقليم الدولة، وهو ما يقودنا إلى السيناريو الثاني.
يتمثل السيناريو الثاني في أن يناقش البرلمان الاتفاقية ويعتبرها تخضع للفقرة الثانية من المادة 151 من الدستور، وبالتالي يدعو إلى عقد استفتاء حولها قبل التصديق عليها، ويظل هذا السيناريو هو الآخر مستبعدًا نظرًا لما لاقته الاتفاقية من معارضة كبيرة لا تخفى على أحد، وبالتالي يمكن التنبؤ بسهولة بأيلولة أي استفتاء عليها إلى الرفض وبأغلبية كبيرة، هذا بخلاف ما يمثله إجراء استفتاء شعبي من عبء مالي وإداري وأمني على الدولة المصرية المنهكة في أكثر من جبهة في الوقت الراهن، ناهيك كذلك عما سيمثله الاعتراض على الاتفاقية في استفتاء شعبي من حرج يضاف إلى الحرج الذي يعانيه النظام من حكم الإدارية العليا.
لا يتركنا هذا إلا أمام السيناريو الثالث وهو الأكثر احتمالية والأكثر رشادة، وهو أن يتمسك البرلمان بحقه في نظر الاتفاقية لكي لا يسمح للمحكمة الإدارية العليا بالافتئات على هذا الحق الأصيل الذي اختصه به الدستور، فإما أن يرفضها لذات الأسباب التي أوردتها حيثيات حكم الإدارية العليا فيما يتعلق بثبوت مصرية الجزيرتين بما لا يدع مجالًا للشك، ولا يتعرض لتعارض الاتفاقية مع الإلزام الدستوري بعدم إبرام أية اتفاقيات يترتب عليها تنازل عن أي جزء من إقليم الدولة كما تنص المادة 151، أو أن يطرح البرلمان الاتفاقية جانبًا لتعارضها مع الفقرة الثالثة من المادة 151 – وهو ما استفاضت المحكمة الإدارية العليا في شرحه في حكمها – وبالتالي يرفض الاتفاقية وتصبح هي والعدم سواء.
على أية حال فإن البرلمان متمسك بحقه في نظر الاتفاقية، والحكومة متمسكة بموقفها المتمثل في تأكيدها عدم اختصاص القضاء الإداري بنظر الأمر برمته لأنه من أمور السيادة، وسيحسم هذا الأمر ما ستؤول إليه مناقشات لجنة الشئون الدستورية والتشريعية بالبرلمان، وما ستعرضه في تقريرها على البرلمان حول وضع الاتفاقية وتأويل حكمها من حيث اتفاقها أو تعارضها مع نصوص الدستور.
النص الأصلي اضغط هنــــــــــــــــــــــا