حازم صاغية يكتب
معاً ضدّ الإعلام... معاً ضدّ الحقيقة
السيّد دونالد ترامب ألقى خطاب التسلّم، الذي أراده البعض لـ «توحيد الأميركيّين»، فجاء خطاب حملة انتخابيّة. نصٌّ من عيون النصوص الشعبويّة التي تستفزّ وتحرّض ضدّ أعداء فعليّين ومتوهّمين. بدا واضحاً مع ذاك الخطاب – الكارثة أنّ المنصب الرئاسيّ لن يغيّر الرجل ولن ينضّجه. طبعه يغلب التطبّع، وهو سيحكم بمنطق الحملات المتواصلة ضدّ عدوّ.
في اليوم التالي، أعلنت تظاهرة النساء الجبّارة في واشنطن ومدن أميركا الأخرى، والتي شارك فيها 2.6 مليون مواطن، كما تضامنت معها تظاهرات في بضع مدن في العالم، حجم الرفض لهذا الرئيس: النساء طبعاً، ولكنْ أيضاً باقي الشعب وعلى رأسه مثقّفوه وفنّانوه. لكنّ ترامب آثر أن يؤكّد أسوأ مخاوف نقّاده. ففي زيارته إلى مقرّ الاستخبارات المركزيّة لـ «مصالحتها»، ألقى خطاباً آخر ضدّ الإعلام والإعلاميّين الذين هم بين الأكثر كذباً وخداعاً على وجه الأرض!
التتمّة كانت لبعض مساعديه الكبار. مسؤوله الإعلاميّ شين سبايسر هدّد وتوعّد وقال إنّ التغطية الإعلاميّة لحفل تنصيب ترامب كانت «عاراً». لكنّ الإضافة «الفكريّة» جاءت من كيلياني كونواي، الموظّفة الرفيعة في البيت الأبيض: ففي دفاعها عمّا قاله سبايسر، رأت أنّه يقدّم «حقائق بديلة»!
«الحقائق البديلة» هي الابنة الشرعيّة لـ «ما بعد الحقيقة». منها مثلاً كلام ترامب عن «مذبحة» سيضع انتخابه حدّاً لها، فيما الأرقام كلّها تشير إلى انخفاض في نسب الجريمة وتحسّن هائل في فرص العمل تحقّقا في السنوات القليلة الماضية. إنّها إعلان عن أنّ السلطة إبّان سنوات ترامب في البيت الأبيض ستكون للكذب والإثارة، وللتعبئة والحملات المتواصلة.
بالطبع، هذا التوجّه لم يؤسّسه ترامب. نعرفه في أحوال الصحافيّين ما بين روسيا فلاديمير بوتين وتركيّا رجب طيّب أردوغان. نعرفه في ما لا يُحصى من بلدان أنظمتها تعادي الديموقراطيّة أو تكتفي منها بواجهة انتخابيّة مزغولة. نعرفه في لغة عالميّة الانتشار وعريقة، يساريّة ويمينيّة و «ما بعد كولونياليّة»، تتّهم الإعلام بصنع الشرّ، لا تغطيته فحسب.
لكنّ الحرب على تمكين المواطنين بالمعرفة لم تكن مرّة على هاتين الضراوة والاتّساع الكونيّ، ولم تتمتّع مرّة بالسطوة التي باتت تحظى بها في بلدان ديموقراطيّة متقدّمة.
عيّنة صغرى على ذلك شهدتها مؤخّراً ألمانيا. فاللقاء الأمميّ الذي عقده قادة الأحزاب اليمينيّة المتطرّفة في أوروبا، بمن فيهم الفرنسيّة مارين لوبن والهولنديّ غيرت وايلدرز، في مدينة كوبلنز، «مُنعت» الصحافة الألمانيّة من تغطيته. المجموعة التي نظّمته، والمسمّاة «أوروبا الأمم والحرّيّات» في البرلمان الأوروبيّ، أفتت بأنّها تعاقب الإعلام لأنّه «فشل في أن يرتقي، في تغطياته السابقة، إلى السويّة الصحافيّة».
كذلك لم يعد الخلاف السياسيّ أو التجاريّ ينعكس اختلافاً في الموقف من الإعلام، ومن الحرّيّات استطراداً. الصين، اليوم، الخصم الأوّل لأميركا ترامب، والعكس بالعكس. الخلافات بينهما تمتدّ من التجارة والتسعير إلى الوضع في بحر الصين الجنوبيّ (وثمّة من يقول إنّ خلافاً أهمّ يدور حول فنادق ترامب التي لم يُرخّص لها بالعمل في الصين).
مع هذا، لا الصين معنيّة بتقديم نموذج مغاير للنموذج الترامبيّ، ولا الولايات المتّحدة الترامبيّة معنيّة بتقديم نموذج مغاير للصين. المثير والمضحك أنّ الصين مارست، قبل أيّام، رقابة مضاعفة على إعلامها (الرسميّ) منعاً لنشر تغطيات موسّعة لتنصيب ترامب رئيساً. وفيما كان زعيمها كسي جينبينغ يقدّم نفسه في منتدى دافوس محامياً عن حرّيّة التجارة، ضدّاً على أفكار ترامب، كانت تنطلق، داخل الصين، حملة جديدة ضدّ «التأويل العدميّ واليمينيّ» لأفكار ماو تسي تونغ!
إنّهم، على خلافاتهم، يقفون جميعاً مع الإثارة عبر الكذب. مع الحكم عبر التعبئة والحملات المفتعلة. ضدّ الإعلام. ضدّ الحقيقة. ضدّ المعرفة.