التصدي للنيوليبرالية وحماية الوسطية السياسية والضمانات الاجتماعية

كتب: مصر العربية

فى: مقالات مختارة

18:03 25 يناير 2017

إثر فوز دونالد ترامب، وفي وقت تهدد الشعبوية القومية والخوف من الأجانب النظام الليبرالي في أوروبا، وحين تكثر الأخطار على الديموقراطية (والديموقراطية الاجتماعية) في كل مكان، وحين يكون المهاجرون والأقليات في خطر في الدول الأوروبية والولايات المتحدة، وحين تهيمن النيوليبرالية الاقتصادية وتشعر الطبقة العاملة بالضيق اكثر من اي وقت مضى منذ الحرب الثانية - يبرز سؤال ما العمل، في الأوساط الديموقراطية، واليسار الوسطي.

 

ولي أصدقاء مستعدون للرمي بأجسادهم بين رجال الشرطة وبين أول مهاجر يسعون الى اعتقاله، وكلنا نُعد لتسجيل أنفسنا كمسلمين إذا أبصر «سجل المسلمين» (لائحة بهم) النور في أميركا، وتكر سبحة المدن الأميركية التي تعلن انها ملاذات آمنة لمن لا يملك اوراق اقامة قانونية، وبعض الليبراليين واليساريين يعلقون على ثيابهم شارة «الدبوس الآمن» للتضامن (مع المهاجرين...)، واليوم، تمس الحاجة الى صوغ سبل مقاومة بروز اليمين المتطرف في حكومة ترامب، وكل ما قرأته عن «المقاومة» (مقاومة مد اليمين المتطرف) يشي بالافتقار الى استراتيجية سياسية.

 

وبعض الاقتراحات التكتيكية راجت على الخط (أونلاين) ولكنها لا تحمل جواباً عن سؤال:» ما العمل؟»، ولا ارى ان السؤال يسير، وجعبتي خاوية من استراتيجية لاقتراحها. ولكن علينا التفكير بثلاث مسائل:

 

1) نحتاج الى تحليل فذ ونقدي لما يجري. وثمة كلام كثير عن اسبـــاب خسارة هيلاري كلينتون ولكنه لا يرتقي الى مصاف التحليل الذي تمس الحاجة اليه، فالكلام هذا مداره على مصالح محلية اميركية، في وقت تجبه الأحزاب الوسطية في كل اصقاع المعمورة، مشاكل واحدة، ولكن حري ألا تستخف بتدخل الأف بي آي في الانتخابات الأميركية، وموقف الديموقراطيين البالغ السذاجة من القرصنة الروسية، وذيوع الأخبار الكاذبة، وأن نعتبر بدروسها، وثمة تحليلات ممتازة وانتقادات للاقتصاد النيوليبرالي، وتبعتها أعمال صحافية قوية تناولت أضرار سياسات التقشف، ولكن الحاجة تمــس الى فهم افضل للسبل السياسية والنفسانية الى معالجة الأضرار.

 

ولم تعد النيوليبرالية عقيدة اقتصادية فحسب. فهي عقيدة الرأسمالية الراجحة والفائزة، و «الجديد» هو أن انتصارها كاسح ومهيمن، ووقع علينا الانتصار هذا وقع المفاجأة والرد عليه كان بطيئاً.

 

وكنا كذلك بطيئين في الإقرار بأخطار الشعبوية (على نحو ما كانت حال حزب العمال البريطاني قبل التصويت على بريكزيت أو الليبراليين الأميركيين واليساريين قبل انتخابات 8 تشرين الثاني- نوفمبر المنصرم). وعلى رغم ان الشعبوية القومية ليست صنو النيوليبرالية - وفي بعض الحالات تتحدى سنن النيوليبرالية - ثمة أوجه تقارب وثيق بينهما. فالشعبوية اليوم ولدت من التقشف والإهمال- أي من اللامبالاة بمشاكل النساء والرجال في كنف أحوال صنعتها النيوليبرالية.

 

ويزعم غوغائيو الشعبوية انهم سينهضون بأولئك الناس، ويساعدونهم، ولكنهم لا يقدمون على ما يغير علاقات القوة في الاقتصاد النيوليبرالي. والشعبوية ناجعة على قدر مخيف في تقويض «اعداء الشعب» من المهاجرين والأقليات، وهؤلاء هم الضعفاء وكبش المحرقة.

 

ولا ترتجى من النقاش النظري الدائر، اليوم، على أهمية سياسات الهوية وصراع الطبقات، فائدة عظيمة، وليس ثمة «طبقة عمال» أهملها السياسيون الديموقراطيون تنتظر التجييش، ومن نحتاج الى التوجه إليهم هم مجموعة بالغة الاختلاط اقتصادياً، منهم العاطلون والعاطلات من العمل، والمسنون الذين لا يتقاضون معاشات تقاعدية مجزية، وعمال نصف الدوام، وعمال حزام الصدأ الذين يتقاضون رواتب أدنى من تلك التي كانوا يتقاضونها، والعمال الذين لا يحظون بحماية النقابات، والريفيون الفقراء - وكل هؤلاء يعيشون في ظروف بالغة الهشاشة، وينتظرون، والقلق يضنيهم، الأزمة المقبلة، وهوياتهم مختلطة: السود والبيض، والمتحدرون من أصول لاتينية (أميركا الجنوبية...) وآسيوية، وذكور وإناث... وفي الإمكان إنشاء تحالف عابر للأعراق من الفئات المحرومة، على نحو ما كتب شارلز ميلز في عدد خريف 2015 من المجلة (ديسنت).

 

ولكن اجتماع هؤلاء في ائتلاف هو رهن إدراكهم أن مصاعبهم مشتركة. فهم في اللغة القديمة، طبقة لا تعرف بَعد أنها طبقة، وهم طبقة في صيرورة. ولكن ما سبل تحريك عجلة إنشاء الطبقة هذه؟

 

2) علينا الدفاع عما تبقى من مكاسب الاشتراكية الديموقراطية ما بعد الحرب العالمية الثانية، وهجوم الجناح اليميني طموح وواسع: ضد المهاجرين، وضد النقابات والمدارس العامة والخدمات الصحية والرفاهية الاجتماعية، والقيود على مصدر الضرر البيئي، ومقاومة هجمات اليمين تقتضي الانضمام الى اي ائتلاف واعد، ويجب حشد ما تبقى من انجازات اليسار، ولو كانت غير كاملة، ودواعي الذود عن نظام الرعاية الصحية، على سبيل المثل، تستدعي كذلك تحسينه على امثل وجه، والدفاع عن التعليم العام (الرسمي) يقتضي توسيع دائرة العام وفهم المواطنة الديموقراطية.

 

ويجب رفع لواء نضال خاص بنا، يساري، واشتراكي ديموقراطي، أو اشتراكي قالباً ومضموناً، والسير على خطى بيرني ساندرز في حملته الانتخابية التمهيدية.

 

وفي الوقت نفسه، لا يسعنا التعويل على جاذبية رجل واحد. ولا يسعنا الاستغناء عن أي من مصادر الدعم، ويجب تجييشها كلها، ونحتاج الى رجال ونساء يتكلمون بلغة اليسار في اجتماعات ولقاءات وتظاهرات ومسيرات.

 

وثمة أوجه ايجابية في الموقع الدفاعي. فنحن ندافع عن قيم لا يقتصر تأييدها على اليسار أو الوسط. ومواقعنا قوية، ومنها نستطيع النضال من اجل المدارس العامة أو نقابات التعليم أو أسر المهاجرين المقيمة في الجوار، أو من اجل (نقاء) الهواء الذي نتفسه في المدن. وسنجد حلفاء لنا في هذه القضايا المشتركة. والدفاع عن الاشتراكية الديموقراطية وسياسات دولة الرعاية ليس مملاً.

 

3) ولكن الدفاع من موقع اليسار وعن قيمه ليس المسألة كلها، فالأخطار لا تهدد فحسب انجازات اليسار (دولة الرعاية والمجتمع المتعدد الثقافات)، بل تهدد كذلك الديموقراطية الدستورية. ونعيش في وقت مضطرب يصح فيه وصف ويليام باتلز في قصيدة ذائعة الصيت:» كلها تتساقط، والوسط عاجز عن الصمود الأناركية تهب على العالم مثل مد دموي اسود.

 

وأبرز مشروع تاريخي اليوم هو المساهمة في تماسك الوسط وصموده، وبعض الرفاق لا يحبذون مثل هذه المساهمة، وكأن بهم أنفاً من الاقتراع لهيلاري كلينتون، ومنهم من رفض التصويت لها، ولكن غيرهم كان حكيماً وأقبل على التصويت لها، وقال لي لا تتردد، ودعاني الى التفكير بأكثر الضعفاء في البلاد، ثم الاقتراع لمن يقلص هشاشتهم وضعفهم، وهذا المبدأ هو بوصلة سياساتنا اليوم، فما يحتاجه اضعف الناس هو حماية البنى الحقوقية الدستورية، وعلينا بالتعاون مع غيرنا من الأميركيين بناء ما سماه آرثر شليسينغر «الوسط الحيوي» أو «الحيوية الوسطية» من جديد.

 

وعلينا وضع الأيدي بأيدي جمهوريين على قدر من المسؤولية يتمسكون بالوسطية السياسية من طريق لفظ ترامب، وعلى رغم ان اعدادهم قليلة، هم جسورون. وثمة رجال ونساء من الليبراليين والمحافظين على أهبة للدفاع عن الدستور حين تدعو الحاجة.

 

ونجاة تيار وسطي حيوي هو شريان حياة اليسار وغيره، فـ «المد الدموي الأسود» لا يهدد المهاجرين والأقليات فحسب، بل يهدد المعارضة على انواعها، والنقابيين، ومثقفي اليسار، والناشطات النسائية، ودعاة السلام، وأصحاب الضمير من الذكور والإناث، والطلاب، والمعلمين الذين لا يحبذون الاختبارات المنمطة، والصحافيين الذين يفضحون جرائم الأثرياء والنافذين، ولا غنى لنا عن حماية البنى الدستورية، ولا عن تماسك الوسط.

 

نقلا عن جريدة الحياة اللندنية

اعلان