عن نهضة الشرق التي خفتت وصورة أموات تحاكي أمواتًا
يبدو أنّ العالم، بخاصّة الغربيّ منه، أخذ كل الفكر فخالطه، ومازجه، وعالجه، وتشرّب واقتات منه غذاءً للروح فصفا، وللعقل فنما، وللجسد فسلم، وما ترك لنا في هذا المشرق الحزين شيئاً منه لنتدبّر أمرنا، فتقاتلنا براعةً وتذابحنا وراعةً، وكفّرنا تكفيراً ورجّمنا ترجيماً، وارتضينا الموت نصيباً بدلاً من الحياة، وفي ظنّنا أنّ الله من عليائه يبتسم لنا راضياً مرضيّاً. والمسألة ليست وليدة ساعتها، أو وليدة السنوات الأخيرة القليلة الماضية فقط. نحن نتحدّث عن خمسة قرون مضت على الأقلّ.
خمسة قرون كانت كافية لنتغرّب عن الفكر، عن الثقافة وعن الإبداع. فتغرّبنا عن التطوّر والتقدّم، وعن الحقّ والواجب، وعن الرقيّ والسمو. ولسان حالنا - لسان حال العباقرة، الجهابذة، الملافنة - أنّ الحقّ في ذلك، كلّ الحقّ، على الغرب الإمبريالي الذي احتلّ الفكر استعماراً، واستأثر بالعلوم احتلالاً، وطمع بالآداب والفلسفة والفنون «فجعنةً»، وما ترك لنا شيئاً نفعله سوى شحذ السيوف لتقطع رؤوسُنا رؤوسَنا. أفيكون كثير علينا أن نتمنّى له الموت؟ فالموت لك أيّها الغرب الحيّ، والحياة لنا نحن الموتى.
خمسة قرون على الأقلّ، ونحن في سبات مَرَضيّ، على رغم من بصيص أمل أتت به نهضة أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين. نهضة ما لبثت أن خفتت بدليل أنّها لم تستطع أن تجعل المريض يستفيق، لأنّ في دمه يجري ما هو أثقل من الزئبق، ويشتدّ كثافةً أمام التجدّد والانفتاح والحداثة. بل إنّ أكثرنا تندّم على تلك الحقبة، وتمنّى لو يستطيع إزالتها من ماضيه أسفاً وتحسّراً. وها نحن نعيش اليوم عالةً على العالم العامل، الراكض إلى ما ينفع الناس، كما تعيش الفطريات على جذوع الأشجار. ها نحن، لا طاقة لنا على الحركة، فبالكاد نأكل وننام ونفرش الأرض أطفالاً.
ولو كانت حركة التنفّس إراديّة لأرحنا العالم من تنبلتنا وعقمنا وثقلنا وتفاهتنا. خمسة قرونٍ ما قدّمنا خلالها إلى العالم سوى عواطفنا وأحاسيسنا على ورقة شعر، وبكائنا ونواحنا على ورقة استجداء، وأحكامنا بعضنا على بعض على ورقة قضاء، وادعاءاتنا بأنّنا أصحاب الجنّة والقيّمون عليها. ولن نُدخِل إليها أولئك الشياطين الذين خدموا الإنسانيّة في علومهم واكتشافاتهم وتطوّر عالمهم خدمةً لهم ولنا. فمثواهم النار خالدين فيها ومثوانا الجنّة وما فيها من كنوز ومن فيها من طيّبات ولذيذات.
وإذ أعلم كلّ هذا، أتساءل لما أكتب كلّ ما أكتبه الآن؟ ولمن؟
أكتب لأنفث غضباً مكبوتاً. أكتب لأصيب الجميع. فإن اكتفيت بهذا السبب سأكون والله سعيداً. أكتب لكيّ أعرّي كلّ ذات أمام الحقيقة. والحقيقة أنّنا قومٌ لا شأن لنا ولا مكان في مسيرة الإنسانيّة اللاتتوقّف. وأكتب لأنّي أريد أن أصرخ في وجوه نابغاتنا أن يكفي نبوغاً فارحمونا. أكتب لأنّنا فقراء عقل وفكر وندّعي أنّنا سبب شروق الشمس على العالم قاطبةً. وأكتب لأنّنا نجترّ ماضينا ونرفض التغيير في عالم يتغيّر في كلّ ثانية.
أكتب لأنّنا نحشد لمن كان من ملّتنا، من مذهبنا، من ديننا ظالماً كان أو مظلوماً. فإن أخطأ أخونا وسقط، أسقطنا جميعاً معه. فلا نعرف الحقّ، وإن عرفناه نغضّ عنه الطرف، لأنّ كلّ ما هو خارج القبيلة عدو. نار القبيلة إذاً ولا جنّة الأعداء. أكتب بقرفٍ واشمئزاز لأنّنا، ومنذ خمسمئة سنة، نقبع في نفق مظلم، ولا نتحرّك، مشلولين عُجّزاً، ونغنّي على ربابتنا: «أما لهذا الليل الطويل أن ينجلي؟» واكتب لأنّنا شطّار في الدين، وشطّار في السياسة، وشطّار بعد أكثر لأنّنا جمعنا الدين والسياسة معاً فكنّا أحذق وأعلم وأفضل من أولئك في الغرب الذين، يا لتعاستهم، فصلوا الدين عن السياسة، واهتمّوا بشؤونهم وقضاياهم ومشاكلهم الحياتيّة. أكتب للذين يعرفون كلّ هذه الأمور ويخرسون، فيزيدون الموت موتاً والأموات أمواتاً.
ولا يحسبنّ أحدٌ أنّنا في لبنان أفضل بكثير من البقيّة الميّتة في هذا الشرق. ففي رؤوسنا الجرثومة عينها. إنّنا أمواتٌ هنا نتسامر مع الأموات هناك. بالأمس قام رجال نهضتنا يحدّثوننا عن الرقيّ والتقدّم والتطوّر. بالأمس كلّمونا عن الحرّية حتى حملناها ألوية بيضاء: حرّية الفرد، والتعبير، والاختلاف، والتعليم ... وعن مسألة تحرير المرأة، وحقوقها، وعن الحقوق والواجبات، وعن الاستقرار والسلام والعيش الهانئ، وعن العمل الذي يرفعنا، والإبداع الذي يضعنا في مصاف مفكّري العالم.
بالأمس حدّثونا عن الحسد والخبث والطمع والأنانيّة كآفات تشدّنا إلى أسفل، فصفّقنا لهم في غرفنا المغلقة. وبالأمس رحلوا وكأنّهم لا أتوا ولا ذهبوا. فوالله لو عرفوا أنّ ما خطّوه وحاكوه مصيره إلى زوال، لطلبوا لنا النار تلتهمنا خدمةً للعالم. وها نحن ما زلنا عبيداً نحلم بالحرّية، ولا نهتمّ لمسألة الحقوق بعامّة فكيف بما هو حقوق المرأة، لا نعرف الحقّ ولا نميّزه عن الواجب. ما زلنا قادرين على نفي السلام بلحظة غضب طائفيّة، مذهبيّة، خسيسة. ولا نتواضع لنعمل بل نحسد بعضنا بعضاً بحقد ما بعده حقد، وخبث ولا خبثّ الضبّ، وطمع ولا طمع الذئب في القطيع.
منذ حربنا المشؤومة، حرب العام 1975، أوقفنا النهضة وأحلناها إلى التقاعد. وأوقفنا معها مسيرة بنائنا التي يكفي أن تتوقّف حتى تتأخّر. وما زلنا نعيش تداعيات الحرب وروافدها. وكمسجون عتيق خرج إلى الحرّية رحنا نستسهل كلّ شيء، وخفّفنا من الروادع التي تربّينا عليها. وانقسمنا وما زلنا منقسمين لأنّنا طائفيّون، مذهبيّون، متعصّبون، قبائليّون، عشائريّون، صغار النفوس إلى درجة ما بعد الانحطاط. ولاؤنا للطائفة وللمذهب في الداخل والخارج، ونسينا أنّنا مؤتمنون على وطن هو كلّ ما نملك، وهو كثير. ولأنّنا نوابغ فجّرنا عبقريّتنا بأن قرّرنا الجلوس إلى طاولة حوار وطنيّ، نجلس فقط لنتسامر، وما زلنا نجلس. وما اهتممنا بشيء. لا بالحجر ولا بالبشر. لا بالكهرباء ولا بالمياه، لا بالمواصلات ولا بالاتصالات، لا بالتعليم والتربية ولا بالأمن والاستقرار، ولا بالإيرادات ولا بالنمو، ولا بحقوق الناس الصحّية ولا بحقوقهم بتحسين ظروف العيش، لأنّنا أدمنّا في فترة الوصاية على الفساد في كلّ الميادين.
هاجر أبناؤنا للاسترزاق بعد أن سدّت سبله في وطنهم ورحنا بوقاحة غير موصوفة نتغنّى بثروتنا الاغترابيّة، وبالأعجوبة اللبنانيّة. كفاكم يا أهبل الناس، كفاكم هبلاً. اعلموا أنّا نستسخفكم كما يستسخفكم العالم. العالم من حولنا في سباق لنشر لواء التمدّن ونحن نيام بل أموات محنّطون. لقد حوّلنا حياتنا إلى أكل وشرب ونوم وفساد وخمول وتنبلة وهبل ورضينا أن نبقى حفاة عراة وبالكاد نلثغ.
أليس غريباً أن لا نرفض واقعنا؟ ولكن، كيف لنا أن نرفض وما فعلنا ذلك من قبل؟ بالأمس كفّرنا رجال نهضتنا لأنّهم حدّثونا عن وجعنا، فطالبنا بحرق كتبهم. وجابوا العلوم الإنسانيّة والوضعيّة، والفلسفة والاجتماع، فرميناهم بالهرطقة. بالأمس كفّرنا شبلي الشميل وفرح أنطون قانعين، ومنعنا كتاب «النبي» لجبران في إحدى المدن العربيّة بسبب عنوانه ليس إلاّ، ونبذنا أفكار ميخائيل نعيمة العلمانيّة. بالأمس قتلنا فرج فودة لأنّه تجاسر ففكّر، ونفينا نصر حامد أبو زيد لأنّه تجاسر فبحث.
بالأمس حاولنا أن نتحرّك فطيّفنا حراكنا وسيّسناه وأثبتنا أنّنا لا نعرف حتى كيف يكون الحراك. وكانت النتيجة أنّنا بالأمس كأنّنا لا تحرّكنا ولا تململنا ولا حتى عرفنا كيف نقف دقيقة صمت حداداً على أنفسنا. فلما نفعل الآن؟ أكل، شرب، نوم ونوم ونوم ... فماذا نقول بعد؟ لن نقول إلاّ الكلمة التي قالها جبران قبل مئة سنة: «أكرهكم يا بني أمّي لأنّكم تكرهون المجد والعظمة. أحتقركم لأنكم تحتقرون نفوسكم».
نقلًا عن "الحياة"