المهندس يحيى حسين عبد الهادي يكتب: التخبُّط .. والتخبيط
يظن الديكتاتور أنه أُوتِىَ الحكمةَ من منابعها، ومِن ثَمَّ فلا حاجة للدولة تحت قيادته للرؤية بالمفهوم الاستراتيجى .. الرؤية فى النُظُمِ المستبدة لها معنىً مختلفٌ تماماً .. الرؤيةُ هى ما يراه الديكتاتور (ما أُرِيكم إلا ما أرى) ولو كان بعض الهلاوس .. فتتوه الأولويات وتأتى القرارات عشوائية وهو ما يُسمى التَخَّبُط ..
فإذا قوبِل التخبطُ بموقفٍ فيه مسحة اعتدادٍ أو مجادلة (لا معارضة) تأخذه العزةُ بالإثم ويبدأ مرحلة التخبيط الهائج غير محسوب العواقب.
مِن نِعَمِ الله على مصر أزهرها وكنيستها .. قد تكون الصفة الغالبة على شيوخ الأزهر وبابوات الكنيسة هي الطِيبةُ لا الثورية .. ولكن يكفينا أن أيَّاً منهم لم ينزلق أبداً إلى تأجيج فتنةٍ بين عنصرى الأمة مثلما انزلقت رموزٌ دينيةٌ فى دولٍ كثيرةٍ حولنا .. قد يجود الزمان بثائرٍ أو مُصلِحٍ كبيرٍ على رأس الأزهر أو الكنيسة .. محمد عبده .. مصطفى المراغى .. محمود شلتوت .. شنودة .. ولكن يظل ذلك هو الاستثناء الذى يؤكد القاعدة .. الأزهر والكنيسة ليستا مؤسستين ثوريتين، ولكنهما مؤسستان وطنيتان .. وهذا يكفى .. ليستا مؤسستين مُعارضتين، ولكنهما مؤسستان عاقلتان .. وهذا يكفى .. هذا يكفى الوطن ولكنه لا يكفى الديكتاتور .. الديكتاتور لا يُريد عاقلاً ولا وطنياً .. ولا معارضاً (طبعاً) ولا مؤيداً .. الديكتاتور لا يُرضيه إلا الانبطاح الكامل.
والقصة تتكرر بالكربون مع اختلاف أبطالها .. لم يكن البابا شنودة معارضاً سياسياً ولكنه كان رجلاً وطنياً عاقلاً لم يرضخ لرغبة السادات فى أن يبارك زيارته للقدس وما تمخض عنها من اتفاقيات مع إسرائيل .. لم يشجب الرجلُ ولم يندد، وإنما كان موقفه الهادئ الحكيم: (لن أذهب للقدس إلا بعد أن يدخلها أشقاؤنا المسلمون) .. كان السادات قد تحول فى نهاية عهده إلى نموذجٍ تُبتلَى به مصر من آنٍ لآخر .. نموذج الديكتاتور الذى يظن أنه يستلهم الوحى من السماء .. فيختلط البطشُ بالجنون .. وبحجة الحفاظ على الوحدة الوطنية كاد أن يدمرها .. فعزل البابا وهاجمه فى خطابٍ كارثىٍ دغدغ به مشاعر الدهماء .. لكن اللهَ سَلَّمَ فكان المصريون أكثر وعياً بالهدف الحقيقى لغضبة السادات .. إذ ما علاقة هيكل وفؤاد سراج الدين والتلمسانى، فضلاً عن البابا شنودة، بالفتنة الطائفية؟ .. ما حدث بعد ذلك معروف .. قُتِل السادات (رحمه الله) على يد بعضٍ ممن دغدغ مشاعرهم على حساب الوطن .. وتحول شنودة فى ذاكرة مصر إلى بطلٍ فى نظر المسلمين قبل المسيحيين.
الغَرَضُ مرض .. ولا يُعادل جرائمَ الإرهاب المتتالية، إلا المتاجرة بالدماء الزَكِيّة التي أُريقت، واتخاذها ستاراً للتخبيط في عدة عصافير في آنٍ واحدٍ .. وكلها عصافير لا علاقة لها بالإرهاب .. إذ ما العلاقة بين محاربة الإرهاب وفرض حالة الطوارئ بما تعنيه من تضييقٍ على حرية الرأي (المخنوقة أصلاً) وحَجْبٍ للمعلومات (المحجوبة أصلاً) وإهدارٍ لحقوق الإنسان (المُنتهكة أصلاً) وتعطيل بعض مواد الدستور (المستباحة أصلاً) .. فالإرهابى الذى مُلِئت دماغه بفكرٍ مفخخٍ يدفعه للموت .. موته وموتنا معه .. لا يعنيه تغليظ العقوبة أو إهدار ضمانات العدالة .. هو لا يعترف بالدستور ولا يقرأه أصلاً .. الطوارئ لا تحاصر الإرهاب ودعاة الفكر الظلامى وإنما تُضَّيِقُ على خصومه من دعاة الدولة المدنية وتعصف بالحريات وضمانات العدالة .. فتُهَّيئُ المناخ لانتشار الأفكار الظلامية المفخخة التى تختنق وتذبل فى مناخ الحرية والهواء المفتوح والعدالة الحقيقية .. تلك تخبيطةُ الطوارئ التى لا علاقة لها بالإرهاب وإنما أُعلِنت لكَتْمِ أي صوتٍ مختلفٍ وتمرير بعض الخطايا الوطنية (أو هكذا يظنون) .. الطوارئ ضدنا لا ضد الإرهاب .. ونحن قد نحتمل بإذن الله أذاها .. ولكن مصر لا تحتمل عبث التخبيط في أزهرها (أو كنيستها) .. وتلك أحدث التخبيطات .. ونحن هنا لا نتحدث عن انتقاداتٍ فرديةٍ لا حرج عليها بل هى واجبةٌ ودليل صحة، وإنما نتحدث عن هجمةٍ إعلاميةٍ (سيادية) حمقاء، والأمر لا يحتاج إلى كثير ذكاءٍ لمعرفة أن وراءها غضباً رئاسياً .. ويؤكد ذلك جماعيةُ الهجوم وتزامنُه وأشخاص القائمين به ممن اشتهروا بالالتصاق بنعال الأجهزة (السيادية والرئاسية) .. وهو غضبٌ لا علاقة له بالإرهاب من قريبٍ أو بعيد .. إذ أن آخر ما يُمكن أن يُتَّهَمَ به الأزهر هو الإرهاب المعروفة منابعه .. وإنما يبدو أن الأمرَ له علاقة بعدم انصياع الأزهر لرغبة الرئيس في تقييد الطلاق الشفهى .. أنا (كمواطنٍ) أميلُ إلى التقييد .. ولكن ما يجوز للمواطن لا يجوز للرئيس .. فتدخل (الرئيس) يذيب الفواصل وينتهك الاستقلالية ويقلب الموازين ويستفز الجميع ويثير الحساسيات .. إن دعوات الإصلاح لا تنقطع في الأزهر أو الكنيسة وتأخذ مجراها الطبيعى بتفاعل الزمن مع الواقع المعيش .. أما التدخل الرئاسي، فهو فضلاً عن أنه مرفوضٌ فهو يُعَّقِدُ الأمور ويُعيق الإصلاح .. قبل سنواتٍ أُثير موضوع الخُلْع على مستوى الأزهر والقانونيين والمجتمع المدنى وانتهى بصدور قانون الخُلْع الذى أصبح واقعاً ولم يعد أحدٌ يتذكر الضجة التى أُثيرت وقتها .. تخيلوا لو كانت الرئاسةُ وقتها قد دَسَّت أنفَها فى الموضوع، ما الذى كان سيحدث؟.. ما يسرى على الأزهر يسرى على الكنيسة .. إذ لن يقبل مصرىٌ (مسلماً كان أو مسيحياً) أن يَدُّسَ الرئيس (أىُ رئيسٍ) أنفَه فى موضوع الطلاق الكنسى أو المدنى للمسيحيين مثلاً.
الحمد لله أن التعقل هو السمة الغالبة على الإخوة المسيحيين، فلم ينزلق أحدُهم لترديد ما تردده الأذرعُ الإعلامية الحمقاء للنظام ضد الأزهر، فى هجمةٍ جهولةٍ، ليس للكنيسة ناقةٌ فيها ولا بعير .. فجَنَّبوا مصر مخاطرَ فتنةٍ لم ولن تحدث بإذن الله أبداً .. وكأنما قدرُهم أن يحتملوا الأذى ويفتدوا مصر جيئةً وذهابا .. وأدعو الله أن يَهَب مُحركى عرائس الماريونيت فى الإعلام نفس التعقل والبصيرة .. إذ إنه حتى التخبيط له خطوطٌ حمراء.
ـــــــــــــــــــــ
نقلا عن البداية