مصر بعد اتفاق الجزيرتين
لا أتذكر خلال السنوات الثلاث الماضية ما يكون قد أثار صدمة وغضب واستياء الناس قدر ما أثارته اتفاقية الجزيرتين. ومن يتصور أن عدم استجابة الجماهير لدعوات التظاهر يوم الجمعة الماضية علامة مطمئنة، أو يرى أن الإسراع بالتصديق على الاتفاقية كفيل بجعل الموضوع ينحسر، يكون واهما لأن إقرار الاتفاقية لحظة تحول فارقة.
مصر بعد الاتفاقية لم تعد كما كانت قبلها. ولا يعنى ذلك التسليم بأن الموضوع قد حُسم بشكل نهائى، فلا أظنه كذلك، بل الأرجح أن يظل مجالا للصراع القانونى والسياسى لفترة طويلة مقبلة، بل وأن يتحول مع الوقت إلى تعبير رمزى عن كل ما يراه الناس من عيوب فى المجتمع، غلاء كان أم فسادا أم ظلما أم غير ذلك.
ومع ذلك فما يهمنى هنا ليس الصراع المقبل حول الاتفاقية، فهذا مجاله حديث آخر، بل النظر إلى ما جلبه سوء إدارة هذا الملف من تغيرات على الساحة العامة يصعب تجاهلها أو اعتبارها مجرد ظواهر عابرة.
وأول هذه التغيرات هو ترسيخ حقيقة أن الحكومة (بمعنى مجلس الوزراء) ليست الجهة المعنية باتخاذ القرارات الكبرى فى البلد بل جهة تنفيذ وحسب. والذى ظهر فى موضوع الجزيرتين أن الحكومة كانت تنتظر القرارات من الرئاسة ومن الأجهزة الأمنية والرقابية التى تشكل دائرة صنع القرار، ثم تبدأ فى التعامل بموجبها. ولكن اللافت هذه المرة أن رئيس الحكومة هو الذى وقع الاتفاقية، وهو الذى ظهر على شاشات التلفزيون يتبادل مستنداتها مع نظيره السعودى، إلا أن أصوات الاعتراض والاحتجاج لم تذكر الحكومة ورئيسها لا بالخير ولا بالشر، مفترضة أن القرار صادر من مكان آخر.
ثانى هذه التغيرات يخص البرلمان، والذى تلاشى للأسف ما كان متبقيا له من اعتبار وما كان يمثله من أمل فى أن يقوم بدور ولو متواضعا فى التشريع والرقابة على الحكومة. فالواقع أن مجلس النواب لم يعد فى ذهن الناس كيانا ذَا شأن بعدما تابعوا الأسلوب المهين الذى أديرت به جلساته، وبعد أن شاهدوا خبراء تطلب شهادتهم ثم يتهمون بالخيانة، ونوابا يصوتون لصالح الاتفاقية ثم يتنصلون، وأغلبية ترفض الاقتراع بالاسم كى يختلط الحابل بالنابل، وتهديدا وإهانة لأصحاب الآراء المخالفة كما لو كانوا أعداء للوطن. ولا أظن أن البرلمان سوف يتجاوز هذه المحنة التى أوقع نفسه وأوقعته الدولة فيها، بل أتصور أن يستكمل مدته ضعيفا مهمشا بعد أن فقد الكثير من المصداقية.
التغير الثالث والخطير أن خطوطا لم يكن قد جرى تجاوزها من قبل فى انتقاد الدولة وقياداتها ومؤسساتها، صارت مستباحة ليس فقط فى فضاء التواصل الاجتماعى المعروف بحدة لغته وقسوة تعبيراته، وإنما أيضا فى مساحات جديدة، ومن أصوات تجنبت حتى هذه اللحظة الوصول بالخلاف فى الرأى إلى حد الخصومة والقطيعة. وإذا كانت الأجهزة المحيطة بدوائر صنع القرار فى الدولة تزين للمسئولين أن هذه ليست سوى أصوات نخبوية وهدامة وخاضعة لأهواء وتدخلات أجنبية، فإنها تسدى لهم بذلك نصحا بالغ الخطأ، وتستهتر بتغير أكثر عمقا فى المزاج العام للبلد، وهو أشد خطورة ودلالة من مظاهرات متفرقة يجرى تفريقها ومطاردتها فى الشوارع الجانبية.
الحقيقة التى يجب الاعتراف بها أن الدولة أقدمت على خطوة غير محسوبة العواقب، وكل تصرف اتخذته للدفاع عن موقفها زاد الطين بلة، وأنها تخطئ فى الاعتقاد بإمكان تجاوز هذه العواقب بالمزيج المعتاد من الحشد الاعلامى، والتهديد بمصير الدول المجاورة، وتشويه الأصوات المعارضة. فالوضع هذه المرة مختلف والغضب المكتوم حقيقى ولا يصح تجاهله أو الاستخفاف به. وهذا ليس من باب تصيد الأخطاء، ولا تضخيم المشكلات كما يحلو للإعلام التابع للدولة أن يصور لنا. هذا التعليق مصدره الوحيد هو القلق على البلد، والحزن على تضحيات الناس التى تذهب هباء نتيجة الإدارة الحكومية بالغة السوء وقليلة الحكمة، والدعوة للتوقف والتفكير واعادة توجيه المسار قبل فوات الأوان.
ـــــــــــ
نقلا عن الشروق