بعض مثقفينا العرب مع آسف ينظرون بعين الشغف إلى آراء غربية فيما يحدث في وطننا العربي، ومع أنَّ المقدمات والنتائج المتسقة تجري بالقرب من أعيننا، والوضع الدامي أسفل أقدامنا ناشرًا ظلاله الرمادية حول بيوتنا؛ محاولاً أن يُظلم الدرب الذي نسير عليه، والنتيجة تكاد تلتهم حصاد أعمار جيل بكامله من المخلصين الشرفاء من المحيط إلى الخليج، إلا أنَّ الرأي لا يكتمل، بل لا يتكون أصلاً، لدى البعض من العرب، إن لم يأتِ من الغرب بخاصة من إعلامه.
عقب نهاية الأسبوع الأول من الشهر الحالي استبقت مجلة "الإيكونوميست" البريطانية الوضع الحرج آنذاك في مدينة الموصل العراقية، واستعداد حكومة "حيدر العبادي" إلى ما هو أكثر وأنكى من المجزرة البشرية الجديدة في المدينة الحبيبة، استبقت المجلة الوضع بتقرير في 8 من أكتوبر/تشرين الأول الجاري عن المدن العربية، مؤداه ومختصره أن أهل السُّنة في منطقة مقصون عن القيادة في أهم الدول، ففلسطين يحكمها متطرفو اليهود، ولبنان بيد الشيعة والمسيحيين، وسوريا يتحكم فيها ما يزال العلويون، أما العراق فيحكمه الشيعة، أما القاهرة في عهد قائد الانقلاب "عبد الفتاح السيسي" فتقتلها عدم الحيادية تماماً كما فعل الراحل "صدام حسين" مع بغداد من قبل، برأي المجلة السالفة الذكر.
أما ما حدث ويحدث في حلب ففسرته المجلة على النحو المعتاد، وهو أمر يحاول تفسير الجانب السياسي المباشر من تركيز على ما يخص اتفاق المصالح بين نظام "بشار الأسد"، الذي كان مؤهلاً للسقوط، ومدّ له الرئيس الروسي "فلاديمير بوتين" في سبتمبر/أيلول2015يد العون بعد استطلاع رأي الكرملين، بقيام الطيران الحربي بقصف أهالينا في المدن السورية، وهو الأمر الذي يحقق بقاء مؤقتاً لنظام "الأسد"، ومطامع روسيا دائمة في المنطقة العربية، وعودة لعهد الاحتلال ونظامه، وقد كان من المفترض أنه انمحى منذ عقود؛ ويعزز الأمر قرار روسي صدر مؤخراً بالبقاء في سوريا دون إطار أو سقف زمني.
ومن جانب آخر فإن قرب ذهاب الرئيس الأمريكي الحالي "باراك أوباما" عن البيت الأبيض يجعله في الوضع الأقرب إلى الشلل عن اتخاذ قرار يردع الدب الروسي عن محاولة التهام سوريا، وهو الأمر الذي ساوى سقوط آلاف الأبرياء في حلب بين شهيد وجريح ولاجئ.
أما ما يخص الوضع في الموصل المرشح لما هو أكثر مما حدث في حلب، نسأل الله السلامة، فهو ما يدفع كل غيور على أمر دينه وإخوانه من المسلمين إلى مراجعة الواقع والقناعات التي يحاول الغرب (دسها) علينا عبر إعلامه، وكأنه لو كان هناك تغيراً في معطى واحد لتغيرت خريطة المأساة في سوريا، أو خفتت بعض الشيء.
فمن موت مئات الآلاف من الكبار بل الأطفال إلى تشرد الملايين وغرقهم ما كان الامر أمر (الهلال الخصيب) أو دول تقع بين البحر المتوسط والخليج العربي، كما قالت "الإيكونوميست" مؤخراً بل هو أمر يخص خارطة لـ(إسرائيل) الكبرى من المحيط إلى الخليج، وإن نسينا فإن اليهود لا ينسون، ومنذ أيام وقف رئيس الوزراء (الإسرائيلي) "بنيامين نتنياهو" ليقول في عيد الغفران الثالث والأربعين ، الخميس 13 من أكتوبر/تشرين الأول الجاري في القدس الغربية: "الجنود (الإسرائيليين) حاربوا في البداية في موقع الدفاع، ثم شنوا هجوما جريئًا، حتى زال التهديد، وذاق أولئك الذين هاجمونا طعم الهزيمة"، وهو يقصد حرب أكتوبر 1973م.
ولكنه افتتح كلماته بالقول: "كان هنالك إخفاقين: الأول، عدم القدرة على تشخيص الخطر في الوقت المناسب، والثاني، بعد أن تم تشخيص الخطر، لم يكن هناك استعداد للتعامل معه بشكل فوري، الفشل كان كبيرًا".
ثم هو يوضح الحقيقة بلغة واضحة، من آسف، قليل من حكامنا أو مثقفينا الذي يقرأها أو ينتبه إليها: "لقد اندلعت الحرب ليس فقط بسبب نوايا أعدائنا، بل أيضا بسبب إخفاقات في القيادة"، بحسب وكالة "الأناضول".
يقول "نتنياهو" هذه الكلمات رغم بالغ المساعدات المذهلة التي قدمها له نظام السيسي في مصر، وبعد شبه التماهي التام بين نظام الأسد وبين دولة الاحتلال.
إن (إسرائيل)، لا ترى دولاً تمثل الهلال الخصيب تعاني أو أهل سُنّة بل هي دول الطوق المحيطة بها التي يجب ألا تستقر بحال من الأحوال، سواء أكانت الدول هي مصر أو سوريا أو العراق أو الأردن أو لبنان، ولكل دولة من هذه الدول معاناتها الخاصة المختارة لها بعناية، وإلا فإن حجم التردي وانتشار الفساد في الأردن لم يكن لا على يد (داعش) ولا المسيحيين ولا الشيعية .. بل تعددت الأسباب والداء (الإسرائيلي) واحد.
إن الغرب الذي يدعم الشيعة ضد أهل السنة في العراق هو الغرب الذي يدعم العلويين في سوريا، هو الذي يحارب الحوثيين في اليمن، وهم المدعومون من الشيعة في إيران، وهو الذي يصمت عن أحداث في البحرين يحكم فيها أهل سنة أغلبية شيعية، وإن العالم اليوم الذي يحارب ما يسمى بـ(داعش) ويبيد أهل السنة لأجلهم هو الذي سمح لـ(داعش) بالوجود اصلاً، إن لم تكن قياداته قد تربت على يديه ليبيد بهم المسلمين.
إن الأمر لا يخص أهل السنة بشكل خاص بل يخص مسلمين في الدول العربية اليوم، لا يستطيعون استيعاب إن غياب الإسلام كمنظمة حضارية متكاملة أصل ما هم فيه من مشكلات.
إن الخطى التائهة عن طريق الالتئام للمسلمين من جديد، أو حتى وجود مجرد دليل على إفاقة تحفظ عليهم حياتهم لأمر كافٍ لازدياد المأساة اليوم، وإن اختلفت مفرداتها وأسماء دول تسعى لالتهام أوطاننا.
إن منظومة الغياب الإسلامي هي التي تسمح لأعدائنا على التجمع حولنا، وإن اختلفوا فلأن مصالحهم تعارضت جزئياً حول الاستحواذ على بلادنا.
ألب أعداءنا علينا الشيعة بعدما أوجدهم أجدادهم ثم اخترعوا لنا (داعش) لنظل محاصرين بين دماء تسيل بيد اعدائنا المباشرين وغير المباشرين، أمس القدس وفلسطين وبغداد واليوم حلب والموصل وغداً يحل الدور على مدن أخرى وصولاً إلى حلم (عفن) بدولة كبرى رباها الغرب على عينيه ليس لها حق في الوجود بين أظهرنا وفي بلادنا.
ويوم يفيق العرب ويعودوا إلى رشدهم ومنظومة العمل الفعال المؤدي إلى حضارة، يوم يتقن كل منا عمله، ويخلص لأمته لا لبيته ومصلحته فحسب، يوم نجد العقل المخلص سائداً على جميع فئات الأمة، يومها لن ننشغل بأسماء بل بكيفية الحفاظ على مقدراتنا وأرواحنا ودماءنا وبلادنا، ويكون حينها رأي عدونا وإعلامه استثنائياً نعرف به مقدار ازدهار خطونا نحو الأمام!