لم يبالغ الوزير محمد فنيش (كتلة الوفاء للمقاومة) حين قال إن «صمت حزب الله أبلغ من الكلام»، في تعليقه على ترشيح رئيس تكتل «التغيير والإصلاح» ميشال عون، لرئاسة الجمهورية. ففي الوقت الذي حبس اللبنانيون أنفاسهم وهم يستمعون الى كلمة زعيم «تيار المستقبل» سعد الحريري، متوقعين أو ربما راغبين في أن يتراجع في اللحظة الأخيرة عن ترشيح عون، ثم بعدما أيقنوا أن الترشيح بات أمراً واقعاً، لم يصدر عن «حزب الله»، الراعي الرسمي (نظرياً) لعون، أي تعليق.
صمت مطبق لم ترشح منه حتى إشارة ترحيب بتبنّي حليفه ومرشحه أو سعادة بـ «إذعان» الحريري أخيراً لرغبته. كأن الرئاسة استحالت فجأة كرة نار يتقاذفها كل فريق باتجاه الآخر تفادياً لما قد يصيبه من شرارتها.
فليس سراً أن عون مرشح حزب الله، لا مرشح تيار المستقبل. وقد اضطر الحريري لأن يعلن ذلك ويكرره في خطابه حتى أوضح بالدليل القاطع أن ما أقدم عليه ليس إلا نزولاً عند سياسة لي الذراع التي تمارس عليه. فبعد استعراض المرشحين كافة، من حلفائه وخصومه، وصل الى حائط مسدود. وليس سؤاله عما كان والده ليفعل في مكانه، إلا ليعيد إلى الأذهان لحظة التمديد لإميل لحود بكسر الذراع وليس فقط بليّها.
والحال أن «حزب الله» لا يحتاج الى أن يرحب أو يعترض. فهو في ذروة من النفوذ والسلطة يعلم معها أن رغباته أوامر سيتم تنفيذها من دون ضرورة الإفصاح عنها. ورغبته الفعلية، على ما بات اللبنانيون يعلمون أيضاً، هي الفراغ وليس الرئاسة.
وفي المعادلات السياسية الطبيعية، كان لترشيح عون الأخير أن يحرج «حزب الله» ويضعه أمام امتحان حقيقي تجاه جمهوره بالدرجة الأولى، واللبنانيين الآخرين بالدرجة الثانية. فبذريعة التمسّك بمرشح من فريقه السياسي، ثم بميشال عون تحديداً، رفض «حزب الله» مباشرة أو مواربة، المرشحين الآخرين كافة مستقلين أو توافقيين، خصوماً أو حلفاء، وأولهم سليمان فرنجية نفسه الذي يمضي اليوم على ترشيح الحريري له عام كامل. فلو كان الحزب يرغب فعلاً في سد الشغور الرئاسي، فهذه فرصته، وهذا اختبار مصداقيته. لكن من قال أن المعادلات السياسية في لبنان طبيعية؟ ومن افترض أن الحزب قد يهمه رفع العتب أو الوفاء بوعوده أصلاً؟
فمنذ البداية، لم يحرج الحزب أن خاض حرباً في سورية بذرائع واهية، رهن البلد لأجلها، وهي حرب قد تنتهي بالعبارة الشهيرة المستقاة من قاموس 2006 «لو كنت أعلم...». فليس من المبالغة القول إن حسابات التورط في سورية لم ترق في أسوأ احتمالاتها إلى ما هي عليه اليوم.
وإذا كان ترشيح فرنجية منذ عام مؤشراً إلى اقتراب تسوية ما في سورية، تقضي بوجود رئيس حليف لنظام بشار، فإن العودة الى ميشال عون اليوم تؤشر الى أن أمد الحرب المجاورة طويل ولا بد من تصريف الأعمال و»تحييد لبنان»، على ما أعلن كل من عون والحريري.
والى ذلك، لم يحرج الحزب أنه فرض فراغاً مؤسساتياً تدريجياً انعكس مع الوقت شللاً عاماً في مفاصل الدولة كافة والحياة العامة، حتى بات هو نفسه المتضرر الأول منه. ففي خضم انشغاله بالحرب السورية، التي طالت أكثر مما كان يتمنى، تنبه إلى أنه يحتاج الى من يدير شؤون لبنان. تلك الأعمال الصغيرة من إدارة ملفات الصحة والكهرباء والتعيينات الإدارية والانتخابات التشريعية المقبلة وأزمة النفايات وغيرها مما لا يرقى الى القضايا المصيرية والوجودية التي يكرس الحزب نفسه لها خارج الحدود. وهو إذ ذاك يوحي برغبته في انتخاب رئيس ويعيق في الوقت نفسه تلبية تلك الرغبة.
فالرئيس الذي قد يضطر «حزب الله» للقبول به هو ذاك الذي يضمن له استمرار الفراغ، فيكون أقرب الى رئيس بلدية منه إلى قائد دولة. وذلك ما لا يضمنه الحزب في شخصية كشخصية ميشال عون، فضلاً عن كونها متقلبة ومزاجية، هي أيضاً شخصية طامحة مصابة بجنون العظمة، قد تصدق في لحظة تخلٍّ أنها فعلاً في موقع إنقاذ للبلد.
في هذا السياق، يأتي رفض رئيس مجلس النواب نبيه بري ترشيح عون خير منقذ للحزب. ففي تلك الـ «لا» العلنية، ما يبدد صمت «حزب الله» ويقدم إجابات بديلة. وإلا كيف يمكن تفسير رفض معلن كهذا من رئيس المجلس وهو حليف «حزب الله»، وشريكه في زعامة الطائفة الشيعية؟ في أي سياق يمكن وضع تمسكه المفاجئ بفرنجية، وقد كان مرشحاً قوياً وقاب قوسين أو أدنى من قصر بعبدا ولم يحظ بالقبول في حينه؟
هو فعلاً صمت أبلغ من الكلام. فحتى تفسير الرفض على أنه امتداد لتنافس قديم بين ولاء تقليدي لإيران وآخر لسورية داخل الطائفة الشيعية، ما عاد وازناً حالياً. ذاك أن التناقضات الداخلية كلها قابلة للتأجيل أمام صوت المعركة المدوي في سورية. وفي ذلك تبديد قاطع لأي وهم بأن اللحظة تاريخية واستثناء لبناني لجهة أن المتربع على كرسي بعبدا سيكون للمرة الأولى رئيساً «صنع في لبنان».
فالواقع يقول أن الطائفة الشيعية على المحك من العراق الى سورية واليمن، ولا بد من ضمان حصتها في لبنان، عدا عن أن الصناعات المحلية لم ترق يوماً إلى تلك المستوردة، فكيف بمنافستها.
المطلوب ببساطة من الرئيس المقبل، إن جاء، أن يؤتمن على الطائفة الشيعية ويرعى مصالحها بلا كثير ضجة وبطولات. رئيس يحرص على الفراغ ويرعاه ريثما يعود «حزب الله» من سورية ظافراً غانماً بوعد صادق آخر.
نقلا عن الحياة