تمر المملكة العربية السعودية – مثل باقي دول المنطقة – بمرحلة تحولات ضخمة، ولكن كيف يكون التغيير في دولة تعد إحدى آخر الملكيات التقليدية المطلقة في العالم؟ وهي الدولة التي ما زالت تهيمن عليها قوى ثقافية واجتماعية ودينية تقليدية؟
ولذلك، أفردت فورين أفيرز مقالًا عن مشروعات التحديث التي أعلنت عنها المملكة العربية السعودية مؤخرًا والتي اهتمت بإعادة تشكيل اقتصاد البلاد. ويبحث المقال التأثيرات بعيدة المدى لهذه البرامج على المحاور الاجتماعية والثقافية بل والسياسية للبلاد.
ويشير المقال الذي وصف تلك التحولات بأنها تحولات جذرية، أن المحفز المباشر لتلك التحولات هو الانهيار الممتد في أسعار النفط وما نتج عن ذلك من عجز في الموازنة (والذي قدر بحوالي 87 مليار دولار أمريكي لعام 2016 م، وهو ما يقدر بحوالي 13 بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي).
وأشار إلى أنه بالنظر إلى خلفية المشهد، يوجد بالتوازي مع ذلك تضخم ديموغرافي ضخم سيؤدي إلى إضافة ستة ملايين سعودي إلى الأيدي العاملة في البلاد خلال خمسة عشر عامًا المقبلة، مما يعني زيادة عدد السعوديين في سوق العمل إلى الضعف تقريبًا، ومن هذا المنطلق يجب النظر إلى التغييرات الديموغرافية وليس إلى أسعار النفط على أنها المحرك الأصلي لمبادرة التغيير في المملكة، حيث إن حجم النمو السكاني سيجعل من النموذج الاقتصادي الحالي (حيث تأتي نسبة 80 بالمائة من الدخل الأسري على المستوى الوطني من الحكومة عن طريق الأجور والإعانات المتنوعة) نموذجًا غير مستدام حتى في حالة حدوث تحسن في أسعار النفط.
وأشار المقال إلى إدراك الرياض لهذه المشكلة، وأنها وضعت خطة تحرك لمواجهتها، تلك الخطة التي تتمثل في رؤية 2030 الطموحة وبرنامج التحول الوطني السعودي اللذين تم الكشف عنهما في بدايات هذا العام، كما أشار المقال إلى أن الأمير محمد بن سلمان ولي عهد المملكة الذي وصفه بالأمير الشاب النشط هو الذي يقود هذا التحول، وأن هذا التحول سيشكل جميع أوجه الاقتصاد السياسي للمملكة على المدى المستقبلي المنظور.
وأوضح المقال أن تلك التحولات الجذرية قد بدأت بالفعل، فمن جانب، فرضت الحكومة مرحلة جديدة من التقشف من حيث تقليص الدعم، وتخفيض رواتب القطاع العام، بالإضافة إلى دراسة فرض مجموعة محدودة من الضرائب، وبالتزامن مع ما سبق، يتم بذل جهود مكثفة لدعم القطاع الخاص. والهدف من كل ذلك هو تحويل السعودية من اقتصاد نفطي إلى سوق حيوي ومتنوع وتنافسي لمجموعة واسعة من القطاعات الإنتاجية والخدمية، من التمويل إلى التصنيع وصولًا إلى السياحة.
ولن يفيد هذا النمو في القطاع الخاص في تنويع القاعدة الاقتصادية للمملكة ورفع الناتج المحلي الإجمالي فحسب، بل سيؤدي إلى خلق وظائف للسعوديين على مستوى غير مسبوق أيضًا، وهو الأمر الذي قد يعد أكثر أهمية من الناحية الاجتماعية-السياسية.
وأشار المقال إلى أنه كما تكافح المملكة العربية السعودية في سبيل مستقبلها الاقتصادي، فإنها أيضًا تواجه عددًا من التحديات الأمنية. فعلى الصعيد الدولي، فإن الرياض متورطة في الحرب المكلفة والمثيرة للجدل في اليمن. كما ارتفعت حدة التوترات مع إيران في جميع أنحاء المنطقة، وهو الأمر الذي لا يرتبط ارتباطًا وثيقًا مع الحملة على اليمن، مما أدى إلى ظهور صراعات بالوكالة في سوريا والعراق ولبنان وغيرها، بالإضافة إلى الحرب الكلامية المستمرة بينهما في الدوائر الدبلوماسية. وعلاوة على كل ما سبق، فقد توترت العلاقات مع الولايات المتحدة الأمريكية.
وعلى الصعيد الداخلي، تواجه السعودية عددًا من التحديات. حيث ما زال تنظيم القاعدة في جزيرة العرب يمثل تهديدًا مخيفًا، كما تكررت هجمات المقاتلين الحوثيين من اليمن ضد أهداف داخل المملكة. كما هاجم تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) وأتباعه المملكة العربية السعودية أيضًا عبر وابل من الهجمات الانتحارية خلال شهر رمضان الموافق لشهر يوليو من هذا العام، بالإضافة إلى سلسلة من التفجيرات التي تستهدف الأقلية الشيعية في البلاد. وأخيرًا، شهدت المدن الشيعية في المنطقة الشرقية أعمال عنف متفرقة وتصاعد في وتيرة الاضطرابات في الآونة الأخيرة، خاصة بعد إعدام الدولة لرجل الدين الشيعي نمر النمر في بداية عام 2016م.
ونبه المقال إلى أنه بعد تقييم التحديات الاقتصادية والأمنية التي تواجهها السعودية جنبًا إلى جنب، سيتبين لنا مقدار صعوبة تلك التحديات، ومع ذلك فإن الموقف أشد خطورة في الواقع، حيث يرتبط الجانبان الاقتصادي والأمني ارتباطًا وثيقًا، وهو الارتباط الذي لم يوله المراقبون في أي من المجالين الاهتمام الكافي.
مملكة حديثة
وأفاد المقال بوجود أسباب تدعو للتفاؤل بشأن التحول الاقتصادي للمملكة العربية السعودية. حيث إنه بالرغم من عدم الإعلان عن رؤية 2030 وفقًا للخطة، لكن المملكة وضعت نفسها على مسار يتجه نحو تغيير اقتصادي جوهري وهيكلي لا رجعة فيه. وأن السعوديين يملكون الموارد والحاجة الملحة والمواهب اللازمة لوضع هذه التغييرات موضع التنفيذ، وأن ولي ولي العهد قد اتخذ خطوات مشجعة في حشد الرأي العام نحو هذا الأمر، خاصة بين الشباب السعودي.
وقد حذر المقال من احتمالية حدوث تغيير كاسح في المملكة لن يقتصر فقط على الاقتصاد. وأنه من المرجح أن يصاحب التغيير الاقتصادي تغييرات اجتماعية وثقافية وسياسية. وليس من المرجح أن يكون التغيير السياسي مفاجئًا أو كاسحًا، ولكنه لن يكون أقل تحويلية، حيث سيحدث موجات من الصدمات في أرجاء مجتمع يعد فيه التغيير أمرًا محرمًا بالنسبة للدوائر المؤثرة القوية الراسخة.
وأضاف المقال أنه على الرغم من أن هذه العملية ستبدأ بقرار فوقي من أعلى لأسفل، فإنها لن تلبث أن تؤسس لزخم شعبي خاص بها من أسفل إلى أعلى. وبمجرد أن تبدأ، ستعتمد على قوتها الذاتية في الاستمرار، وسينهمر الاستثمار الأجنبي على البلاد وستوظف الشركات الأجنبية السعوديين بمئات الآلاف. وستشكل الحركية الاقتصادية المتزايدة والنزعة الدولانية الحوار حول مستقبل السعودية بأساليب شتى، وسيتحسن واقع المرأة، وسيحتك الشباب السعوديون مع العالم الخارجي بصورة أكثر عمقًا في عملية ستزيد من مقدار الفهم المتبادل بين السعوديين والمتعاملين معهم مما سيساعد على أن يتجاوز الطرفان الصور النمطية التي يرونها في الطرف الآخر. وحذر من أن القوى الاجتماعية والدينية المحافظة ستكافح من أجل الحفاظ على نفوذها لمواجهة هذا الهجوم (وهو النفوذ الذي لم يكن مطلقًا كما يردد منتقدو المملكة).
وأضاف أن هذا بدوره ينذر بحدوث تفكك واضطراب اجتماعي كاسح. وبينما تحاول عناصر من المجتمع السعودي الابتعاد عن الانعزالية والتزمت الديني (ولكن تدريجيًا وعلى نحو متفاوت)، سيتضاعف التشدد الراديكالي عند أقلية داخل المملكة، وسيكون هناك توترات بين الأجيال، وتوترات مناطقية، وتوترات اجتماعية-اقتصادية، وتوترات طائفية، وتوترات بين سكان المناطق الحضرية والمناطق النائية. وستتجلى كل حركية مما سبق بطرق مختلفة، ولكنها ستحتاج جميعًا إلى أن تولي الحكومة اهتمامًا حيالها.
وعلى هذا النحو، ستمثل السعودية دراسة حالة مثيرة للاهتمام حول العلاقة بين التنمية الاقتصادية وأنماط التطرف العنيف. ومن الناحية العملية، لن يكفي لإدارة عملية التحول الاعتماد على الطرق التقليدية في مكافحة الإرهاب واجتثاث التطرف. فبالرغم من أن المملكة ستتمكن بالاعتماد على قدراتها الاستخباراتية القوية سواء البشرية أو الإلكترونية من استهداف الشبكات المسلحة ومنع وقوع الهجمات، وأن برامج مكافحة التطرف السعودية ستكون من المقومات ذات القيمة الكبيرة، إلا أن كل ذلك لن يكون كافيًا.
وأوضح المقال أن السعوديين يحتاجون بصورة حرجة إلى اكتساب فهم مفصل حول كيفية استجابة الجماعات السكانية الرئيسية داخل المملكة للتغيرات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وأن ذلك سيتطلب وجود وعي ظرفي واقعي، ووجود تحليل تنبؤي استشرافي للمؤشرات الشخصية المتأصلة والمؤشرات النوعية، حيث إن السعودية أبعد ما تكون عن التجانس البنيوي الثقافي-الاجتماعي. ولذلك، ستوجد اختلافات ضخمة في كيفية وقوع الأحداث بين مدينة وأخرى، بل بين حي وآخر. وعلى الحكومة السعودية أن تتعهد هذه العملية بمزيج من الحوار المفتوح، والتحفيز الشامل، والإجبار الانتقائي.
ونبه المقال إلى أنه من أجل تحقيق هذا التوازن الدقيق، سيحتاج العاملون في الاستخبارات والمسئولون عن تطبيق القانون أن يضيفوا إلى ترساناتهم حزمًا من المهارات الإثنوغرافية والسوسيولوجية. حيث سيكون عليهم العمل بصورة أكثر تعاونًا من أي وقت مضى مع الجهات المعنية في القطاعين العام والخاص الذين يتمتعون بالقدرة والبصيرة في إدراك ما يدور في عقول الشباب السعوديين وقلوبهم، مع البقاء أيضًا على اتساق مع آراء المؤسسة الدينية ومصالحها.
وحذر المقال أن المخاطر مرتفعة، والمهمة جسيمة، وأنه بسبب كون أكثر من نصف سكان المملكة تحت عمر 25 عامًا الآن، فستشهد السعودية أجيالًا متتابعة (ذات الأحجام غير المسبوقة) تبلغ سن الرشد في بيئة تعج بالاضطراب، وأنه سيكون على مهندسي التحول الاقتصادي والقوى الضامنة للاستقرار الاجتماعي العمل يدًا بيد في إعادة النقاش حول الجوانب الجوهرية للهوية الثقافية للمملكة، وأنهم سيقومون بذلك وهم يواجهون معارضة شرسة. وإذا فشلت تلك المحاولات، فستواجه السعودية احتمال نشوب اضطرابات داخلية عنيفة إلى حد ما أكثر خطورة من أي تهديد حالي.
وأفاد المقال أن رؤية 2030 وبرنامج التحول الوطني يمثلان نقطة اللاعودة بالنسبة للبلاد. وفي سبيل تحقيق هذه الأهداف الطموحة، ستحتاج السعودية إلى استعراض الاضطرابات والتوترات والشكوك التي تتبع بالضرورة حدوث تغيير بهذا الحجم. واختتم المقال بعرض الموقف الأمريكي، حيث يوجد خياران أمام الولايات المتحدة الأمريكية، فيمكن للولايات المتحدة أن تساعد السعوديين على الخوض في هذه العملية، أو أن تنأى بنفسها بصورة أكبر. حيث يمكنها أن تساعد السعودية في التحول إلى الدولة الموصوفة في رؤية 2030. أو يمكنها أن تولي ظهرها إليها وتأمل في حدوث الأفضل، بينما تمر أكثر دول العالم الإسلامي تأثيرًا – حسب وصف المقال – بلحظة تاريخية مصيرية.