إنّ أسهل ما يمكن أن يتوقعه مُشاهد خارجي هو أنّ المعركة لطرد مقاتلي «داعش» من الموصل في شمال العراق ستكون طويلة ومنهكة ودامية. وثمة سبب ليتذكّر من كان في الماضي جندياً، مثلي، الخوف الذي ينتابه عند الاضطرار إلى الاستيلاء على مدينة، بيتاً تلو الآخر، وشارعاً تلو الآخر، وحيّاً تلو الآخر، وسط تواجد القنّاصة على سطوح الأبنية وانتشار العبوات في كل مكان، ناهيك عن ظاهرة جديدة نسبياً، تتمثل بتفجير انتحاريين أنفسهم في المحيط القريب.
إنّها من المزايا التي تملكها مجموعات متمرّدة، على غرار «داعش»، فيسهل عليها نسبياً تدريب شبان وتخبئتهم، والقيام بالمراقبة ثم الهجوم، شرط أن يكون هؤلاء الشبّان مستعدّين للتخلي في سياق ذلك عن حياتهم. وبالاستناد إلى المنطق عينه، يتم بناء أنفاق يتحرك المقاتلون عبرها بمزيد من الأمان، ومخازن خفيّة للمواد الغذائية والذخائر الجاهزة.
لكنّ من المناسب أيضاً مراقبة التقدم المحرز على صعيد التجهيزات الحربية التي تم اختبارها في المدن أخيرًا في دول مثل ليبيا، حيث استعملت القوات البريطانية الخاصة طائرات صغيرة من دون طيار للقيام بجولات رصد جوّي فوق البيوت المتواجدة في الأمام. إلى جانب ذلك، ظهرت تكتيكات حديثة على غرار إطلاق النار على عجلات مركبة آلية مقتربة تبدو محملة بالمتفجرات. وتشمل ابتكارات أخرى على ما يبدو أساليب وقائية معتمَدة في عدد كبير من الضواحي، حيث يُصعّب تباعد المنازل بعضها عن بعض شنّ هجمات مضادة. والأصعب من ذلك كلّه استعمال المعلومات المأخوذة من جواسيس تسللوا إلى صفوف «داعش» وهرّبوها إلى الجهات المحاصِرة.
بيد أنّ معرفة ما إذا كان يكفي تجنب التدمير الشامل لأهم أبنية المدينة هو مسألة مختلفة تماماً. وفي هذا السياق، يكفي النظر إلى اللقطات الجوية عن مدينة حلب القديمة، التي باتت مسرح دمار كبير إلى حد يجعلك تتساءل حول المغزى المحتمل من التدمير الكلي للمكان الذي تود معاودة السيطرة عليه ذات يوم. وفي أحوال كهذه، قد يكون من الأفضل فرض حصار مطوّل كما في القرون الوسطى، عندما كان يتم تجويع المدن المحصّنة حتى تستسلم، بدلاً من تعريضها لهجمات متكررة وباهظة التكلفة، وتمنح هذه الطريقة المهاجمين وقتاً ضرورياً ليتّخذوا قراراً في ما بينهم بشأن نظامهم الحاكم، لا سيما في أماكن كالموصل، التي تضم سكّاناً متنوعين وتشمل على الأرجح مليونين ونصف مليون سني وشيعي وتركماني وكردي.
وكذلك، من الحريّ النظر في تشبيه آخر بالقرون الوسطى، فالجهات المهاجمة والمدافعة على حد سواء في حلب استعانت بوسائل قتال كيميائية بصيغتها البدائية، وأطلقت على بعضها البعض براميل متفجرة تحتوي على شتى أنواع المواد السامة، ويُقال حتى إنّه تمّ استعمال الغازات السامة، مع أنها ممنوعة رسمياً بموجب معاهدة جنيف.
ما لا يساعد على حلحلة الأمور هو أنّ الصراعات المدنيّة في الشرق الأوسط بمعظمها هي نوع من الحروب الأهلية، لكنّها أيضاً صراعات أعنف من غيرها، ولا تستند إلى أي قواعد متفق عليها على صعيد معاملة السجناء، أو إدارة المدنيين، أو حماية الأطباء أو المرافق الطبية. وكذلك، ما لا يساعد على إنهاء الصراعات هو أنّها تتشبّه بالحروب الأهلية المعروفة في تاريخ العالم، التي تشجّع إمّا على تدخل أطراف محاربة خارجية بصفتها مدربة للقوات المحلية، أو على إيجاد وسطاء محليين لتوسيع نطاق نفوذها السياسي. وفي الأماكن التي تتّسم فيها الجهات الخارجية بالجهل النسبي، يسود احتمال أكبر بأن يتم التلاعب بعقول هؤلاء المتدخلين، وجعلهم يشنّون هجوماً على أعداء مدنيين جواً أو براً.
وسط هذه الظروف المعقّدة، أفضل ما يمكن فعله هو التصرف بتأنّ، على أمل النجاح في الحد من الإصابات الناتجة عن تكتيكات كتلك المعتمدة في الموصل. ومن هذه التكتيكات مثلاً رمي عشرات آلاف النشرات التي تشمل إرشادات حول السلامة، على غرار كيفية لصق شريط عازل على النوافذ لتجنب الزجاج المتكسر، وكيفية التنقّل بأمان في الشوارع، والسير على الأقدام مثلاً بدلاً من استعمال السيّارة.
لكن بغضّ النظر عن الاستعدادات المسبقة، يبقى فتح المدن الكبرى واحتلالها من الاستراتيجيات المحفوفة بمخاطر كبيرة، تتأتى عنها سلسلة تداعيات يصعب التنبيه منها مسبقاً، حتى عبر إعلان دولة عسكرية. فماذا لو شملت المعركة، بين جملة من الأمور، عدداً كبيراً من الأهداف الواجب تحقيقها بين مجموعات مختلفة من السكّان؟ وماذا لو تمّت مصادرة البيوت وغيرها من العقارات من الجيران الأقل نفوذاً؟ وماذا عن انتشار عمليّات النهب؟ وماذا لو أن عمليات الانتقام والصراعات التالية استمرّت لسنوات وسنوات، وحتى لعقود؟
عرفت قوات «داعش» ما تفعله عندما قرّرت إقحام نفسها في المدن الكبرى، فاحتلّتها بسرعة في عملية صادمة ورهيبة، ومن ثم غارت فيها لمنع معاودة الاستيلاء الفوري عليها. إنها تكتيكات مثالية تعتمدها مجموعات الميليشيات الصغيرة، التي تملك دوافع كبيرة وتسعى لاستحداث أنواع جديدة من القوانين والحكم، سواء في الشرق الأوسط العربي، أو أفغانستان، أو أجزاء كثيرة من أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى. وهكذا، ووسط مساعي الحكام والأنظمة المحلية لاستحداث قوات خاصة من نوع جديد لحماية نفسها، يتعلم المتمردون كيفية التأقلم مع الوضع الجديد، ويطوّرون تكتيكات جديدة، ويسعون لصقل استراتيجيات انتهازية جديدة تقوم على عنصر المفاجأة، والإخفاء، والانسحاب، ومن ثم العودة المفاجئة.
وفي حين تستكشف حكومات الشرق والغرب على حد سواء، وعلى حسابها الخاص، كيفية استعمال الطائرات في محاولة للحد من عدد الضحايا الميدانيين في صفوف جنودها، كل ما يفعله ذلك هو قيام مشاكل معقدة في المستقبل، تُعتبَر أصعب بكثير من المشاكل الناتجة عن إرسال الجنود من بيت إلى بيت. وهنا، يكفي أن تسألوا رئيس أفغانستان الجديد عن الموضوع!
* أكاديمي بريطاني - جامعة هارفارد
نقلا عن الحياة