بينما كانت نار الحرب مستعرة في شبه جزيرة سيناء بين الجيش المصري والمحتل الإسرائيلي، كانت منظمة الأوبك قد قررت خفض إنتاجها البترولي المصدر للدول الغربية، والولايات المتحدة الأمريكية، الداعمين لإسرائيل.. شهدت أسعار النفط على إثر هذا الشُح في المعروض من المواد البترولية زيادة فجّة، فكان أن تراكمت أرباح الدول المصدرة والشركات العملاقة العاملة بالمجال النفطي في «البنوك العالمية»، التي حاولت بدورها استثمار هذا المال المتراكم لديها في مجالات تدر عليها الربح الوفير.
ونظرًا لحالة الكساد الشديد الذي كان يعاني منه الاقتصاد العالمي، صرفت هذه البنوك أنظارها إلى دول العالم الثالث، هناك في أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، وقررت الاستثمار في القروض والمنح، التي كانت هذه الدول في أمس الحاجة إليها لتغطية احتياجاتها من المواد البترولية باهظة الثمن، واستحدث صندوق النقد الدولي لإنجاز هذه المهمة ما عُرف حينها (عام 1973م) بتسهيل الصندوق الموسع، ليسمح من خلاله للدول الأعضاء باقتراض نحو 140% من حصتها، وبفترة تسديد تتراوح من أربعة أعوم ونصف إلى عشرة أعوام.
ومع أننا أشرنا أن الصندوق قدّم هذه القروض لتغطية حاجات البلدان من المواد البترولية إلا أنه لم يراقب مصارف هذه الأموال، سواءٌ تمّ تبديدها في جيوب حكّام مستبدين، أم أنفقوها على التعزيزات العسكرية الضامنة لبقائهم في السلطة، الأمر لم يكن بالنسبة للدائن سوى أقساط الفوائد!
مع تضاعف معدلات الفائدة المفروضة على هذه البُلدان، وتفاقم الأوضاع الاقتصادية عالميًا ومحليًا، بدت هذه الدول عاجزة عن الوفاء بما عليها من ديون، فكان الوجه الثاني للصندوق وهو يوفر لهم الملاذ الأخير (ما قبل الهاوية).
نعرض في سياق التقرير لتجربتي تشيلي والأرجنتين كأبرز وأهم الأمثلة التي طُبقت فيها السياسات الاقتصادية النيوليبرالية بالتوازي مع القمع السياسي، وترويع المعارضين، هل تنجح الإجراءات ذاتها في مصر كاستثناء؟
الأيام وحدها القادرة على إجابتنا.
مذبحة بينوشيه (تشيلي)الرئيس الاشتراكي «سيلفادور أليندي» يغادر موقعه من السلطة -قتيلًا- بانقلاب عسكري، دبّرت له وكالة الاستخبارات الأمريكية CIA، ليحل محله «أوغستو بينوشيه». البلاد تعاني من التضخم، يعجز أمامه بينوشيه، فيقرر الاستعانة بثلاثين من خبراء الاقتصاد من مواطني تشيلي، الذين تعلموا الاقتصاد هناك في الولايات المتحدة على يد الاقتصادي الأمريكي الكبير «ميلتون فريدمان»، وكان الاتفاق أنه: بينما يتكفل بينوشيه بردع معارضيه عليهم صياغة برنامج اقتصادي تقشفي يعين البلاد على الخروج من كبوتها الاقتصادية.
وخلال بضعة أسابيع كان البرنامج قد تم إعداده، ويقضي بالآتي: «خفض الكيمات النقدية المتداولة على نحو صارم وفعال، خفض الإنفاق الحكومي، تسريح أكبر قدر ممكن من الموظفين الحكوميين، خصخصة القطاع الصحي والتعليمي، زيادة المعدلات الضريبية على الأفراد، بينما تُخفض الضرائب والرسوم الجمركية بشأن الشركات» ما أطلق عليه حينها (1973م) العلاج بالصدمة.
وكنتيجة لما أعده بينوشيه والخبراء الثلاثون تزايدت معدلات البطالة في البلاد، فبعد أن كانت لا تتعدى 3% عام 1973م بلغت في 1975م 18.7%، بينما بلغ معدل التضخم 341%، وتزايدت على نحو بالغ معدلات الفقر وجرت عملية فصل للطبقة الوسطى، لتزداد الأعداد التي هي دون خط الفقر، بينما تركز 36.5% من الدخل القومي في يد 10% فقط من سكان تشيلي عام 1980م، النسبة التي بلغت بعدها بأعوام قليلة 46.8%.
وبينما كان بينوشيه مستوحشًا في القمع والتنكيل بمعارضيه وبغالبية شعبه، في أقسى عملية تقشف شهدتها القارة اللاتينية، كان صندوق النقد يمدّه بالقروض بعد عام واحد من انقلابه على سيلفادور أليندي.. في النهاية انتهى حكم بينوشيه عام 1990م باستفتاء شعبي مخلفًا وراءه بحر من المظالم الاجتماعية والمديونيات المرهقة لكاهل البلاد لأمد بعيد.
أكبر إفلاس حكومي عرفه التاريخ (الأرجنتين)«خورخي فيديلا» يقود انقلابًا عسكريًا في العام 1976م، يحكم بالحدد والنار، يخفي أكثر من ثلاثين ألفًا من أبناء شعبه المعارضين لحكمه في الفترة بين 1976-1978م. ولأنه جاء إلى الحكم بعد عقدين من التوترات السياسية والاقتصادية وتقلبات الحكم، وجد البلاد تدور في فلك صندوق النقد الدولي، فعمد إلى تحرير الاقتصاد والتجارة من توجيه الدولة، والقطاع المالي من القيود الحكومية، رفع كذلك معدل الفائدة، رغبةً منه في خلق مناخ جاذب للاستثمار، كما أخضع العديد من مشاريع الدولة لعملية خصخصة واسعة.
الفرصة التي لم تفت الشركات العابرة للقارات، لتحط باستثماراتها ولتقطف ثمار الإصلاحات الاقتصادية يدًا بيد مع جنرالات الجيش الأرجنتيني.. في الوقت الذي أُجبر فيه فيديلا على الاستقالة من منصبه كرئيس للبلاد 1983م، كان كل رجالات الجيش الكبار قد تحولوا إلى رجال أعمال، لهم أرصدة سوقية بالملايين من الدولارات.
في سبعة سنوات، حكم فيها فيديلا البلاد، انخفضت حصة الأجور من إجمالي الناتج القومي من 43% ل 22%، وتراجع الإنتاج الصناعي في البلاد بنحو 40%، وارتفعت الديون الخارجية من نحو 8 مليار دولار ل43 مليار دولار. ليتقلد أمور البلاد راؤول ألفونسين، وعلى كاهله مسؤوليات محاربة التضخم الذي بلغت معدلاته مئات النقاط المئوية!
محاولات ألوفسين لإرضاء صندوق النقد أثارت حنق مواطنيه، فنُظّم في ولايته 4000 إضراب عن العمل. ورغم أنه أنفذ الإجراءات المتماشية مع ما يريده الصندوق، إلا أنه ماطل في تسريح عدد من الموظفين الحكوميين، وأحجم عن خصخصة ثلاثة مشاريع كبرى!
هذا السلوك المتردد لم يلق ترحيبًا من الصندوق، فأحجم والبنوك الكبرى عن تقديم حزمة جديدة من القروض كانت تحتاجها الأرجنتين، ما أجبر ألفونسين على تقديم استقالته.
ليخلفه «كارلوس منعم»، مسرفًا في طاعة الصندوق، ليقل متوسط دخل المواطن الأرجنتيني بنحو 20% عما كان عليه قبل وصول فيديلا للحكم (أي عام 1975م)، ومن ثم أخضع اقتصاد البلاد لبرنامج الصدمة، الذي تعرض له الاقتصاد التشيلي على يد بينوشيه وخبرائه الثلاثين. (سرّح مئات الآلاف من الموظفين الحكوميين، عمد إلى إزالة كافة العوائق التجارية في طريق الاستثمار الأجنبي، خصخص القطاع المصرفي بشكل شبه كامل، «ما أدّى بعدها مؤخرًا لتهريب مليارات الدولارات خارج البلاد، متسببًا في أكبر عملية إفلاس عرفها التاريخ»، باع مشاريع حكومية عملاقة أمثال شركة الخطوط الجوية الأرجنتينية وشركة البترول إلى مستثمرين أجانب، رفع بنسبة 50% ضريبة القيمة المضافة، ما أضر بعموم المواطنين من ذوي الدخول المحدودة.
الإصلاح الاقتصادي الذي مارسه كارلوس منعم في الأرجنتين بالطبع فاق ما فعله بينوشيه في تشيلي، ولذلك انهارت الأرجنتين في بحر من الكساد، وشهدات معدلات تضخمية لم يسبق لها نظير، وانهارت عملتها وقطاعها المصرفي والتجاري.
نقلا عن اضاءات