لم تعد مشقة الأوضاع المتدهورة وعذابها، الذي لا يطاق في مدينة الموصل، شمالي العراق، يقتصر على الأحياء بل راح يشمل حتى الأموات منهم.
وتسبب احتدام المعارك وقطع الطرق في صعوبة الوصول إلى المكان المخصص لدفن من يفارق الحياة في مقبرة التلفزيون، شرقي الموصل، بل أصبح أمرًا مستحيلاً.
وبعد التوسيع العمراني لمدينة الموصل أنشأ الأهالي مقبرة لدفن موتاهم، قرب منطقة بثّ الإذاعة والتلفزيون الحكومي، شرق المدينة، بموافقة الحكومة العراقية السابقة. ومنذ ذلك الحين أصبح يطلق عليها مقبرة التلفزيون، وهي عبارة عن أرض صحراوية واسعة في الجانب الأيسر (شرق نهر دجلة). وكان أهالي الموصل، الذين يفقدون أحداً من ذويهم أو اقربائهم، يتوجهون نحو هذه المقبرة لاتمام عملية الدفن، كونها قريبة من مركز المدينة ويمكن الوصول إليها بسهولة وإتمام مراسيم زيارة الموتى التي اعتاد عليها الأهالي. سعدون إلياس (الثلاثيني)، الذي فارقت والدته الحياة، مساء السبت الماضي، تحدث للأناضول، وصوت بكائه يخنق كلامه، ليس لأنه فقد والدته، التي كانت تصارع المرض لسنوات عدة وتتألم بسبب نقص الدواء، بل لأنه لم يتمكن من دفنها في المكان الذي أوصته بدفنها وهو مقبرة التلفزيون قرب زوجها ووالدها ووالدتها.
وأوضح إلياس أنه ذهب بصحبة مجموعة من رجال منطقته، ومعهم جثمان والدته لاتمام مراسم الدفن، إلا أنهم لم يتمكنوا من الدخول إلى المقبرة كون المواجهات المسلحة كانت قد بلغت ذروتها بين قوات التحرير وتنظيم داعش. وتابع إلياس، "بعد الانتظار لأكثر من خمس ساعات على تخوم منطقة المقبرة جاء أحد عناصر التنظيم الينا وأبلغنا بضرورة الانسحاب خشية تعرضهم لنيران الأسلحة الرشاشة أو القصف المدفعي أو الجوي. واشار إلياس، انه "بعد أن انتاب الجميع اليأس قررنا العودة بالجثمان إلى المنزل والانتظار حتى الصباح الباكر لاتمام عملية الدفن"، مضيفاً أنه "خلال ساعات الليل الطويلة كانت أصوات الاشتباكات المسلحة تارة تهز أرجاء المدينة وتارة أُخرة تهدأ". واستطرد إلياس، "مع صلاة فجر الأحد قررنا أخذ الجثمان والانطلاق نحو المقبرة على أمل دفنها وعند الوصول إلى المنطقة، وجدنا أن الوضع بات أسوء مما كان عليه، عند مساء السبت".
وأضاف: وجدنا بعض جثث المسلحين على قارعة الطرقات وظروف الاطلاقات النارية تملأ الشوارع في حين كان هناك بعض المسلحين وهم يحملون الأسلحة الخفيفة والمتوسطة والقذائف الصاروخية وينتشرون بين المنازل استعداداً للمواجهة ضد القوات الأمنية. واستدرك إلياس أنهم انتظروا أكثر من ساعتين قبل أن تجبرهم النيران، التي أصابت إحدى مركباتهم على الانسحاب فورا، لافتاً إلى أنه "بعد العودة اتفق الجميع على دفن جثمان والدته في مقبرة وادي عكاب، غربي الموصل، ومن ثم العودة إلى المنزل عند منتصف نهار الأحد، وعدم إقامة مراسم العزاء. وبسبب الظروف الأمنية الصعبة، التي تمر بها المدينة، يصطف طابور من السيارات المدنية، التي تحمل النعوش عند مدخل مقبرة وادي عكاب، غربي الموصل، بانتظار السماح لهم من قبل المشرفين على هذه المقبرة للدخول وإيجاد مكان لدفن موتاهم هذا هو الحال الآن، بحسب ما روى للأناضول ابو خلدون عبر اتصال هاتفي.
يقول أبو خلدون (في العقد الرابع من عمره)، الذي اختار هذا الاسم المستعار، خشية على حياته، إنه يعمل في مهمة حفر القبور منذ أكثر من 18 عاماً بمقبرة وادي عكاب، وطيلة الأعوام السابقة كان الأهالي، الذين يأتون إلى هذه المقبرة لدفن موتاهم لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة شهرياَ".
ويضيف: إلا أنه خلال الساعات الـ 48 الماضية وبسبب استمرار تعرض المدينة للنيران من كل جبهة، شهد القدوم على هذه المقبرة ازدياداً ملحوظاً. وبين أبو خلدون، أن "العشرات يقفون على القبور بمواقع متفرقة من المقبرة لدفن موتاهم، فالبعض منهم سقط بقصف جوي أو بنيران عناصر التنظيم لكن بالمحصلة لم يعد بمقدورهم (أهالي الموصل) أن يدفنوا موتاهم في مقابرهم التي اعتادوا عليها والتي تعود لعوائلهم. من جهته، قال محمد جمال (27 عاماً) للأناضول، وهو نازح من سكان الموصل يقيم في أربيل (عاصمة الإقليم الكردي)، نقلاً عن أحد أقربائه وهو موظف في دائرة الطب العدلي، فضل عدم ذكر اسمه، خشية على حياته، إن الأماكن المخصصة لحفظ الجثث في دائرة الطب العدلي تكاد تمتلئ لأن الأهالي عزفوا عن إخراج جثث مواتهم كونهم لا يعرفون أين يذهبون بها بعد أن انقطع الطريق المؤدي لمقبرة التلفزيون وبعد مقبرة وداي عكاب وصعوبة الوصول اليها. وأشار جمال، نقلاً عن الموظف، إلى ـن الأمور الصحية في دائرة الطب العدلي أخذت تتدهور وأن الجميع لا يعرف ماذا يفعل لا سيما وأن هناك الكثير من جثامبن المسلحين والمدنيين تحت الأنقاض في المناطق الشرقية للمدينة، وحتى الآن، لم يتم استخراجها واتخاذ اللازم تجاهها لمنع تفش الأمراض في حال بقيت وقت أطول وتعرضت للتفسخ. ويضيف جمال، أن "هذه الصورة التي تنقل من الموصل، ليست حقيقة 100% ، فالحقيقة أكثر مرارة بكثير وربما لا توجد كلمات في العالم أجمع لوصفها، فهناك أكثر من مليوني شخص داخل المدينة، محاصرون وحياتهم معرضة للموت، في أية لحظة لا بل أكثر من ذلك هو أن جثثهم قد لا تجد مكان توارى الثرى به". ويوجد مقبرتان رئيسيتان في ساحلي الموصل الأيمن والأيسر (غرب وشرق نهر دجلة)، إحداهما مقبرة وادي عكاب، غرب الموصل، وهي على مشارف المدينة الغربية من الجانب الأيمن. والأخرى مقبرة التلفزيون، شرقي الموصل ضمن الجانب الأيسر للمدينة، والتي تدور في رحاها المعارك ووصلت القوات العراقية إلى مشارفها قرب محطة التلفزيون وتمكنت من تحرير منطقة كوكجلي وأحياء أخرى شرقي الموصل. ومنذ سيطرة التنظيم على الموصل، في العاشر من يونيو 2014، منع زيارة القبور، على سكان الموصل، وحتى في أيام العيد، كما حظر على الأهالي إقامة مجالس العزاء، بدعوى أنها "ليست من السنة النبوية". وفي 17 أكتوبر الماضي، انطلقت معركة استعادة الموصل بمشاركة 45 ألفاً من القوات التابعة لحكومة بغداد، سواء من الجيش، أو الشرطة، مدعومين بالحشد الشعبي، وحرس نينوى (سني)، إلى جانب "البيشمركة " (قوات الإقليم الكردي). وتحظى الحملة العسكرية بغطاء جوي من التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة. واستعادت القوات المشاركة خلال الأيام الماضية، عشرات القرى والبلدات في محيط المدينة من قبضة "داعش"، كما تمكنت من دخول مدينة الموصل من الناحية الشرقية.