تابعت الباحثة المصرية بترقب شديد - وباعتبارها خبيرة فى الشأن السياسي الصينى - الصحف والإعلام الصينى طوال فترة الحملة الانتخابية فى الولايات المتحدة نظراً لخطورة وأهمية هذا الحدث بالنسبة للصين التى عانت ومازالت تعانى من التدخل الأمريكي السافر فى شئونها تارة بحجة احترام حقوق الانسان وتارة بسبب اغراق أسواق العالم بالضائع والسلع الصينية وتعمد الصين إضعاف قيمة اليوان الصيني لأسباب اقتصادية بحتة.
والباحثة المصرية تتذكر جيداً آخر كلمات الأساتذة والأكاديميين الصينيين الذين قابلتهم خلال زيارتها الأخيرة إلى بكين بشأن علاقتهم بواشنطن، وصادف ذلك قرار المحكمة الدولية بشأن أحقية الفلبين فى جزرها فى بحر الصين الجنوبي - برعاية أمريكية - والنزاع الدائر بينها وبين الصين فى هذا الشأن.... شهدت الباحثة المصرية كل الجدالات والاحتجاجات التى دارت فى هذه الفترة، وخلصت من ذلك كله بنتيجة صينية مفادها "لابد من إيقاف واشنطن"!
مازالت هذه الأحداث القريبة عالقة فى ذهن الباحثة مع متابعتها المستمرة لكل ما تكتبه أو تتناوله الصحافة الصينية بشأن رؤيتهم لما يحدث فى واشنطن من تغيرات.
وخلال الساعات الأخيرة ومع اشتداد التنافس بين كلينتون وترامب ومع تزايد المؤشرات النهائية لفوز ترامب بالانتخابات خاصة مع تنبؤ "القرد الصيني الملك جيدا" China’s Monkey King Geda 中国猴子国王 Zhōngguó hóu zǐ guówáng بفوزه تباينت التكهنات وردود الأفعال والتحليلات الصينية بشأن مستقبل بكين وواشنطن... فجاءت أولى هذه التعليقات الصينية على فوز ترامب بالانتخابات بأنه أمر يدعو لسعادة بكين، وجاء تعليق صيني مهم استوقف الباحثة بشدة ألا وهو "إن انتخاب دونالد ترامب سيكون كارثة لكل من يهتم بحقوق الإنسان والقيادة العالمية للولايات المتحدة، وحرية وسائل الإعلام، وهذا يعني انه انتصار لبكين".
وتؤكد تحليلات وسائل الاعلام والصحافة الصينية خلال متابعة الباحثة لها فى اللحظات الأخيرة معلنة فوز "ترامب" بان ذلك يعنى تحقيق حكومة بكين لأربعة انتصارات كبيرة للقيادة الصينية، تتلخص فى الآتي:
فوز "ترامب" هو انتصار جيوسياسي لحكومة بكين: فالصين الآن لم تعد تواجه الآن احتمال سياسات هيلاري كلينتون وإدارتها التخويفية دوماً حيال بكين، خاصة مع الصراع الأمريكى - الصينى من أجل السلطة والنفوذ في منطقة المحيط الهادئ وبحر الصين الجنوبي ودعم واشنطن لدول مثل فيتنام وميانمار، والفلبين فى صراعها ضد الصين، فضلاً عن الدعم الأمريكي اللامحدود لحلفاءها الاقليمين المجاورين للصين مثل: تايوان، كوريا الجنوبية، واليابان، ودعمها لمثل هذه الدول فى الحصول على رادع نووي خاص بهم، مما تسبب فى توترات جديدة بين واشنطن وبكين.
الانتصار الثاني بالنسبة للصين من فوز ترامب يتمثل فى لعبة التحدى أو المفاضلة بين الاستبداد والديمقراطية من وجهة النظر الصينية، بمعنى كيف نجح النظام الانتخابي الأمريكي أن ينتج شخص مثل ترامب الغوغائي - تماماً كما يحلو لبعض الصحف الصينية أن تسميه – وشبهت الصحافة الصينية اختيار ترامب بأنه يعادل اختيار الرئيس التنفيذي لشركة كبرى من خلال سباق الخيل. وهنا تدافع الصين عن نفسها وعن نظامها المتمثل فى الحزب الشيوعي الحاكم بأنه الديمقراطية لا تنتج دوماً قادة بارعين كما هو الحال فى واشنطن الآن... فالنظام السياسي في الصين يتعين عليه أن يتم اختيار القادة بعناية، اعدادهم، ودفعهم لاكتساب الخبرة في كل مستوى من مستويات نظام الحزب الشيوعي القاعدية قبل أن يتم دفعه لشغل هذا المنصب السياسي الرفيع كرئيس للبلاد مثلاً. فالصين بشكل عام تطمح نحو النموذج السنغافوري من السيطرة النخبوية عليها بعناية شديدة واقتدار. وتنظر حكومة بكين إلى فوز ترامب بأنه يؤيد وجهة نظر بكين بأن الخوف من الديمقراطية الغربية أحياناً له ما يبرره لأنه قد ينتج قادة وزعماء سياسيين ليسوا على المستوى المطلوب، ومن هنا فإن هذا الطرح الصينى الرسمى قد أعطى فى الفترة الأخيرة مصداقية لانتقادات وسائل الاعلام الصينية من "أن الفوضى الديمقراطية الأمريكية قد أدت إلى مهزلة سياسية بفوز ترامب" ... فضلاً عن الانتقادات الصينية الأخرى الموجهة لواشنطن من أن "الانقسام المحتمل بين التصويت الشعبي والمجمع الانتخابي تؤكد بما لا يدع مجالاً للشك أن الديمقراطية الأمريكية هي مجرد خدعة". كما أكد الاعلام الصيني انتقد السياسة الأمريكية الجديدة فى عهد "ترامب" بأنها نفسها ضد حقوق الانسان التى تتشدق بها واشنطن دوماً وتلوح بها لحلفائها بدءاً من فرض حظر على هجرة المسلمين لواشنطن إلى بناء الحائط مع المكسيك، وكلها سياسات سيتم استخدامها من قبل بكين لمهاجمة القمع فى واشنطن على غرار الانتقادات الأمريكية المستمرة دوماً ضد الصين فى مجال حقوق الانسان.
وهذا بدوره يؤدي إلى الانتصار الثالث بالنسبة للصين فى مواجهة واشنطن فى مجال انتقاد واشنطن لبكين فيما يتعلق بحقوق الإنسان والحقوق السياسية للمرأة الصينية، والهجمات الأمريكية على بكين لتقييدها حرية الصحافة والاعلام، وإلقاء القبض على خمس سيدات نشطاء صينيات منادين بالحرية، إلى الانتقاد الأمريكي لغياب الحزب الشيوعي من القيادات النسائية. الأمر الذي سيمكن حكومة بكين من توجيه ضربات مماثلة لواشنطن من عدم وجود نفس الشفافية التى تنادى بها فى مجالات الإنفاق المحلية وإعداد الميزانيات والموازنات الحكومية العسكرية الصينية خاصةً مع عدم افراج الرئيس "ترامب" حتى هذه اللحظة عن سجلاته الضريبية فضلاً عن عنفه وتمييزه العنصري ضد المرأة، وهى الأمور كلها التى ستجعل حكومة بكين ترد بكل سهولة على واشنطن فى عهد ترامب إذا ما تعلق الأمر بأى انتقادات لها فى هذه المجالات خاصة فى أى مواجهة مع البيت الأبيض بشأن حالات القمع في شينجيانغ أو حتى هونغ كونغ.
ويتمثل الانتصار الرابع والأخير بالنسبة للصين فى الرد الدائم على واشنطن بشأن مدى مصداقية وسائل الإعلام والصحف الأمريكية والتى أدانت بالإجماع تقريباً سياسات ترامب وأيدت هيلارى كلينتون فى مواجهته، وهذا من شأنه أن يعزز من جدية الاتهام والدعوى التي تقدمت بها وسائل الإعلام الرسمية الصينية من أن وسائل الإعلام الغربي منحازة لفريق أو لطرف على حساب آخر وهى نفس الاتهامات السابقة التى كانت تلقى ضد بكين.
ومع محاولة الباحثة المصرية التواصل مع أكبر عدد ممكن من الأكاديميين الصينيين لمعرفة وجهة نظرهم تجاه فوز "ترامب" وماذا يعنى ذلك بالنسبة إليهم وإلى الصين، تباينت ردود الأفعال، والتى رصدت الباحثة أهمها وأكثرها عمقاً واختلافاً على النحو الآتى:
يرى عدداً من المحللين الصينيين أن هيلارى كلينتون بصفتها الأصلية "محامية" فإن الصين لا تميل للتعامل مع المحامين عموماً لأن السيدة كلينتون مثلها مثل أى محامى تميل لاتباع قواعد وعقود عند التعامل مع الصين، ومع قضايا السياسة الخارجية على نطاق أوسع، وهذا كان سيشكل تحدياً أقوى بكثير، وتعد هيلاري شخصية صعبة إلى حد ما فى الوقت الذي تجد فيه الصين صعوبة في التعامل مع المحامين لأن "غريزة المحامى تتمثل في إعداد قواعد"، كما أنها لدي كلينتون ميل إلى عدم قبول الحجة القائلة بأن الصين هي "حالة خاصة" تحتاج إلى معاملة مختلفة من بلدان أخرى، لذا فالسياسة الأفضل الجديدة التى يجب أن تتبناها واشنطن ترامب تجاه الصين هى سياسة "الاحتواء" وليس المواجهة.
يرى عدداً من الأكاديميين الصينيين وعلى رأسهم الدكتور تاو شيه، Tao Xie 陶谢 وهو أستاذ في جامعة بكين للدراسات الأجنبية Beijing Foreign Studies 北京外国语大学 Běijīng wàiguóyǔ dàxué University. أنه لدى السيدة كلينتون ميل لمناصرة حقوق الإنسان ومجافاة الحقيقة، ولها وجهات نظر متشددة في المنازعات البحرية في بحر الصين الجنوبي بين الصين وعدداً من جيرانها الاقليميين، ومن هنا يظن أن كثيراً من الصينيين لديهم آراء سلبية جداً لها. ويتذكر الدكتور تاو شيه "إن صحيفة جلوبال تايمز الصينية باللغة الانجليزية نشرت ذات مرة افتتاحية كبيرة عشية زيارة قامت بها هيلارى كلينتون إلى بكين معلنة أنها ليست موضع ترحيب"، ويوضح هذا المقال فى الجلوبال تايمز الصينية طبيعة المشاعر السائدة في بعض الأوساط الشعبية والنخبوية ضد السيدة كلينتون". وفي تقرير خاص للجلوبال تايمز الصينية بمناسبة رحيلها من وزارة الخارجية الأمريكية، وصفت نفس الصحيفة التي تديرها الدولة الصينية رسمياً بأنها تعتبر أبغض سياسي أمريكى مكروه فى الصين وهو التعبير الأكثر انتشاراً الآن بين مستخدمي الانترنت الصينيين. وأشار استطلاع على الانترنت أجرته صحيفة "جلوبال تايمز الصينية "في مارس الماضى 2016 بأن 54٪ من الصينيين سيصوتون لصالح الملياردير الأمريكي ترامب.
تبدو أيضاً بعض الانتقادات التى رصدتها الباحثة المصرية فى الصين ضد كلينتون التى وصفها عدداً من الصينيين بأنها انتهازية، وسخر بعضهم من قصات شعرها وبأنها "امرأة مجنونة". وعند مطالعة الباحثة لتعليقات الصينيين على وسائل التواصل الاجتماعى الصينية وعلى رأسها موقع الويبو الصيني الذى يوازى موقع تويتر Weibo ستجد تعليقاً واحداً كثيراً ما يستشهد به من الصينيين يتعلق بزوج هيلارى السيد بيل كلينتون بأنه: "إذا كانت لا تستطيع إدارة زوجها، كيف تستطيع أن تدير أمريكا؟"... ولكن يعلق بعض الصينيين حول أن هذا لا يعني أن رئاسة ترامب سيكون موضع ترحيب بأذرع مفتوحة في الصين، فمثلاً "القادة الصينيين قد لا يروق لها (كلينتون)، لكنهم يعلمون تماماً كيف يمكن أن تعمل معها"، بعكس ترامب هو غير معروف تماماً لدى الصينيين، خاصة مدى جديته وهل هو جاد فعلاً في الرغبة في فرض تعريفات حول البضائع الصينية بنسبة تتعدى الـ 45٪ أم هى مجرد محاولة وتصريح مجرد من ترامب لتشكيل السلوك الصيني وتحييده وتقييده في بحر الصين الجنوبي؟ مع تساؤل الصينيون فى السياق ذاته: وماذا عن السماح لكوريا الجنوبية واليابان فى مواصلة حياتهم الخاصة وامتلاكهم قدرات وأسلحة نووية مدعمة من واشنطن؟"... فى الوقت الذي أبدى فيه عدداً غير قليل من الصينيين قلقهم العميق حيال سياسات وتصريحات ترامب الغير مفهومة بالنسبة للصينيين.
ولكن على الجانب الآخر، ستجد فى بكين بعض الناشطات والنسويات الصينيات المؤيدات لشخصية هيلارى كلينتون التى عرفت فى الصين وسلطت الأضواء عليها تحديداً بعد إلقائها لخطاب فى عام 1995 فى قلب بكين كسيدة أولى في المؤتمر العالمي الرابع للأمم المتحدة حول المرأة الذي عقد في بكين فى هذه الفترة. ومن ضمن الناشطات الصينيات المؤيدات لهيلارى هى الناشطة الصينية فنغ يوان Feng Yuan 冯媛، الناشطة الصينية المعروفة في مجال حقوق المرأة، كما حظيت هيلارى كلينتون أيضاً بدعم الجيل الجديد من النسويات والناشطات الصينيات خاصة مع دفاع السيدة كلينتون فى عام 2015 على خلفية احتجاز خمسة شابات صينيات عضوات فى الحركة النسائية الصينية، وانتقدت هيلارى كلينتون موقف الحكومة الصينية من هؤلاء الشابات الصينيات ووصفته بأنه "لا يغتفر" وذلك على تويتر ودعت حينها كلينتون الرئيس الصيني "شي جين بينغ" بسرعة الافراج عنهن ووعدت حينها أيضاً باتخاذ إجراءات صارمة فى سبيل الافراج عن الناشطات النسويات الشابات الصينيات.
ومن هنا تخلص الباحثة بأن ردود الأفعال الصينية تباينت حيال فوز ترامب ضد كلينتون... وعلى الأخص فإن فوز ترامب بالذات سيدعم وجهة نظر حكومة بكين بأن الديمقراطية الغربية "لا تفرز" كل ما هو جيد - كما شرحت الباحثة سابقاً - والدليل على ذلك فوز ترامب باجتياح بنتيجة الانتخابات الأمريكية، مع استمرار حكومة بكين لدعوتها لواشنطن بمعاملتها بأنها تمثل "حالة خاصة" وبأن بكين تمثل مفهوماً خاصاً يعرف بـــ "الديمقراطية ذات الخصائص الصينية".... وهو المصطلح نفسه الذي واجه تحديات جمة من قبل الأمريكان والغرب فى معاملتهم وانتقاداتهم المتوالية للصين.