قبيل الحادي عشر في مصر

قبيل حول اليوم الحادي عشر من الشهر الحادي عشر دخل إلى القاعة، تاركاً على بابها الحارس، ليمنع الدخول. على الطاولة أربع ورقات. وحول الطاولة، كما هي الحال منذ العام الرابع عشر من القرن العشرين، ثلاثة مقاعد. أحدها خشبي شاغر منذ الغزو الفارسي مصرَ.

 

والثاني - المقعد الفولاذي – مخصص له، هو من يدعوه كل من يجلس عليه – ولو للحظة واحدة – المقعد الذهبي. المقعد الثالث «الاستبداد الشرقي». هو اسمُ مفهومٍ، وليس اسمَ شخصٍ. لكن ما باليد حيلة. يقال أن هذا الاسم اختاره أرسطو، الذي فلسَفَ حكايا آيسخيلوس، لأي شخص من هذه الأصقاع يشغل مثل هذا الموقع. على الثالث، يجلس من يتراوح كيانه بين صور عدة: ديبلوماسي أميركي مستعرب أسيف. مثقف أميركي متلعثم وقح. جنرال أميركي شاحب الوجه زائغ العينين. جنرال بريطاني صارم الملامح، حاد النظرات. وصور أخرى كثيرة متباينة المهن والأدوار والتوجهات، أميركية، وبريطانية، وكندية، وأسترالية، أولاً. وبعد ذلك صور أخرى: فرنسية، وإيطالية، وألمانية، وروسية، وصينية، وماليزية، وشرق أوسطية.

 

ظنَّ الفولاذي أن الورقات على الطاولة هي ورقات اعتماد جماعة «الإخوان المسلمين»، تحت مظلة ليبرالية ما، شريكاً له في حكم البلاد. لم يعرف ما إذا كان الجنرال البريطاني تجسَّد له للحظات أم لا. هزَّ رأسه متأففاً. قال أن صاحب الشاغر فوَّضه في رفض أي دور للجماعة أياً كانت مظلتها. عندما تلفَّظ بالكلمة الأولى من عبارته تلك، كان الجنرال الشاحب قد تجسَّد في مواجهته مومئاً له بتفهم كامل للرفض. تبدَّدت صورة الشاحب ليحل محلها الجنرال البريطاني الغاضب. نعم، هذا هو بالتأكيد. لكنه اختفى قبل أن تنبس شفتاه المزمومتان بحرف واحد. حل الديبلوماسي المستعرب محل الجنرالين. تتابعت الصور.

 

تباطأ الفولاذي حتى لا يكتمل منطوقه أو يحين حين الرد عليه إلا مع عودة الجنرال الشاحب إلى الظهور. عندما توهم الفولاذي أن الجنرال الشاحب يكاد يظهر مستوياً على المقعد الذهبي، أسرع بإكمال عبارته. ظهر له صاحب كراج السيارات الشهير ومديره في كازاخستان، صديق الوزراء والديبلوماسيين ورجال الأعمال والمهربين، الذي لا يكف عن التجشؤ. فاجأه صاحب الكراج ومديره بإيماءة تفهم. حلَّ محله الجنرال الشاحب لينطق بما أمكن الفولاذي أن يقرأه في عيني صاحب الكراج ومديره، على رغم سحائب كثيفة من غازات مقززة كادت تخفي صورته قبل أن تختفي بالفعل: دعنا من صاحب الشاغر. تصبح هذه الورقات ورقات اعتمادك أنت إن وقَّعت ثلاثاً منها. ظهرت صور متتابعات لرؤوس تومئ بالموافقة. قال المثقف الأميركي المتلعثم الوقح: هي ورقات أربع. الأولى تؤجل القبول بورقتين أخريين ولا تلغيه. وهي تتعلق بتحرير الاقتصاد. قال الجنرال البريطاني، في عودة مبكرة غير اعتيادية: هذا مطلب قائم منذ عام 1840، ولم يعد التسويف مقبولاً. ظهر، لجزءٍ من الثانية، مثقف فرنسي على وجهه علائم خجل قديم، ثم اختفى. قال المثقف الأميركي: الورقة الثانية إطلاق سراح مسجونين. لأنه مستعرب ألثغ فقد نطقها هكذا: «ثاراهو ماثجونين». ينصت الفولاذي إليه ولا يسخر من نطقه، بعكس رجال إدارته الدائمي السخرية من عربية المثقف الأميركي المتلعثم الوقح، ربما كردّ فعل على وقاحته.

 

واصل المثقف الأميركي: تتذكر ألف لام التعريف. ولدت، بالنسبة لكم في العام السابع والستين، لكنها اليوم تؤدي وظيفة جديدة. تتابعت صور موافقين، من مختلف الأعراق يومئون برؤوسهم في صمت. قال المتلعثم الوقح: الثالثة إعادة التحقيق في عملية فض اعتصام رابعة. هتف الفولاذي: سارق النار! (الحياة 25 تشرين الثاني - نوفمبر 2013). لهذا صدر البيان، إذاً؟ لم يتلقَّ إجابة عن سؤاله. تتابعت صور المثقف الأميركي والديبلوماسي الأميركي والجنرال الأميركي، والجنرال البريطاني، ليتكامل على ألسنتها منطوق حدَّد الورقة الرابعة: الرابعة موْضعُ قدمٍ (...) لجماعة «الإخوان المُسْـ (...) لمينَ» في الْـ (...) حياةِ العَامة. أطرق الفولاذي متفكراً، ثم رفع رأسه متسائلاً: هل يمكن الانتظار إلى ما بعد الحادي عشر من الحادي عشر؟ تسارع التتابع حتى يتاح للمثقف الأميركي المستعرب أن يكون هو من يرد. لكن تداخلت مع صورته الصورتان التوأم: صورة آندرس بيهرنغ بريفيك Anders Behring Breivik وصورة أبو بكر البغدادي. تتابعت مكونات السؤال على ألسنة الثلاثة: وهل ستكون معنا، بعد الحادي عشر من الحادي عشر؟ لم ينتظر الفولاذي طويلاً حتى ظهر الجنرال (الأميركي؟ البريطاني؟). زمَّ الفولاذي شفتيه على الطريقة البريطانية، ثم تحوَّل إلى ما يشبه الابتسام الممرور، وهو يتحدث إلى الجنرال المموه الصورة، حتى بعد أن اختفى، كأن من حلوا محله لا وجود لهم: كنا نتحدث عن 1840، أليس كذلك؟ ها أنا ذا معكم منذ 1840، كما كنت مع من قبلكم، قبل ذلك التاريخ. على أي حال، سأطرح تصوراتي بخصوص كل شيء على الأشقر أو على الشقراء. لا نعلم من سيأتي. لكن سأبلغك أيها الجنرال، بما سيدور بيني وبينها، أو بيني وبينه. أتوقع أنه حتى أنت يا جنرال تفهم أني أوافق، من الآن، على الورقة الأولى. انتظر أن يسفر التتابع عن ظهور أي فرنسي، ليطلب منه أن يذكر الجميع بما كتبه روبير سوليه عن موروث السادات الباقي في مصر المعاصرة (الحياة 26 تموز - يوليو 2014).

 

تتابعت الصور في سرعة مدوخة ثم انطفأت. نهض الفولاذي من فوق مقعده مترنحاً تحت ثقل الدروع، وهو لا يدري إن كان هناك، بين أولئك الذين تبددت صورهم، من استوعب رده. في طريق خروجه من القاعة وقف لحظة في مواجهة الحارس: - مارأيك في ما قلناه؟ - لم أسمع سوى صوتك، يا افندم! - كيف رأيت الاستجابات؟ لم أرَ سواك، يا افندم! نظر من موقعه بجوار الحارس إلى حيث كان يجلس هو ومحاوره. لم ير من هذا الموقع سوى كرسيه والكرسي الخشبي والطاولة. استدار خارجاً من القاعة، وهو واثق في أن الحارس سيتبعه كظله.

 

مقالات متعلقة