11/11.. يوم العزاب

حسين إسماعيل نائب رئيس تحرير الطبعة العربية لمجلة ((الصين اليوم))

11/11 هو اليوم الذي اختار صينيون، لم يجد أي منهم نصفه الآخر، أن يحتفلوا معا فيه. لم يكن الاختيار عشوائيا، فرقم الحادي عشر المزدوج كاملا (1111) يعبر عن أشخاص اختاروا بأنفسهم أو شاءت ظروفهم أن يكون كل واحد منهم منعزلا، ويحاولون الخروج من عزلتهم والعثور على شريك، ليكون كل اثنين منهم معا ( 11/11). ويقول الصينيون إن تكرار الرقم (1) أربع مرات يدل على الوحدة الشديدة. يُسمى هذا اليوم بالصينية "قوانغقون جيه"، أي يوم العازب. الصين بها أكثر من مائتي مليون شخص، ذكورا وإناثا، في سن الزواج ولكنهم مازالوا عُزّابا. في العاصمة بكين وحدها أكثر من نصف مليون شخص أعزب وعزباء.

 

والحقيقة أن الاحتفال بيوم "العُزّاب" في الصين بدأ بين أروقة الجامعات في تسعينات القرن العشرين، وتحديدا في جامعة نانجينغ سنة 1993، في مسعى للترويح عن النفس وتنفيث الكبت الناجم عن العزلة ومحاولة التعرف على آخرين والبحث عن شريك مناسب.

 

ويقال إن الفكرة نبتت في واحدة من غرف نوم الطلاب في جامعة نانجينغ، جمعت بين أربعة طلاب، كانوا يتحدثون كل ليلة قبل النوم عن كيفية أن تكون لهم صديقات، ففكروا في إقامة بعض النشاطات في الحادي عشر من نوفمبر التالي، ومنذ ذاك، صارت هذه النشاطات تقام في الحادي عشر من نوفمبر وانتشرت إلى جامعات كثيرة في نانجينغ وفي مدن أخرى. ولكن جوهر المشكلة مازال قائما، فالنسبة بين الذكور والإناث من جيل ما بعد الثمانينات غير متوازنة، فهناك مائة وعشرون ذكرا مقابل كل مائة أنثى، وتصل النسبة بين الطلاب والطالبات في بعض الجامعات الصينية إلى سبعة طلاب مقابل طالبة واحدة!

 

جاء "يوم العُزّاب" فكرة رائعة، تحمل بين طياتها مشاعر إنسانية وأحاسيس رومانسية لجيل من الصينيين عاش مرحلة تحولات اقتصادية واجتماعية هائلة، يصفها الصينيون بأنها تهز الأرض والسماء. في هذه المرحلة، تحررت المرأة من تبعيتها للرجل وخرجت للعمل وصارت تتعامل بندية مع الرجل، زوجا وزميلا. صارت ضغوط الحياة كثيرة ومطالبها أكثر، وفي غمرة الانشغال بالعمل وتحقيق الذات أهمل بعضهم مشاعره، أو ربما أجل حلم عش الزوجية إلى مرحلة لاحقة فمرق قطار العمر وتراكمت معه المشاكل النفسية والاجتماعية.

 

سألت صديقا صينيا، قبل شهرين تقريبا، ما إذا كان ابنه الذي شارف عمره على الخمسين، قد تزوج، فقال إن ابنه لديه مسكن ويعمل سائقا بدخل معقول ومع ذلك لم يتزوج.

 

عندما اختار العازبون في الصين هذا اليوم لكسر قيود عزلتهم، توافقت آراؤهم أن يكون الاحتفال به يكون وفقا لتقاليد مرتبطة بالثقافة الصينية، فيبدأ العازب هذا اليوم بأن يتناول في الفطور أربعة أعواد من طعام صيني مشهور اسمه يوتياو، وهو عبارة عن لفائف عجين على شكل أعواد مقلية في الزيت، تمثل بالطبع 11/11، ثم قطعة من باوتسي، وهي كعكة تُنضَج على البخار، تمثل الفاصل بين 11 الأولى و11 الثانية.

 

ويتناول العازب الغداء مع أصدقائه العُزّاب في مطعم، على أن يدفع كل منهم حساب طعامه بنفسه، تعبيرا عن الاستقلالية، ثم يبدأ بعضهم بإرسال رسائل عبر وسائط الاتصال الإلكترونية إلى أصدقائهم العُزّاب للتعبير لهم عن أطيب التمنيات، يكون هذا اليوم عيدا لمتاجر بيع الزهور.

 

مع انتشار وسائط التواصل الاجتماعي بفضل انتشار شبكة الإنترنت، توسعت دائرة الاحتفال بيوم "العُزّاب" وخرجت من حرم الجامعات إلى أوساط وفئات مختلفة بالمجتمع، وتحولت المناسبة تدريجيا إلى ظاهرة تجارية.

 

بينما كان الشباب يداعبون أحلامهم البسيطة في حرم جامعاتهم، كان أصحاب الأعمال ينتظرونهم هناك عند الأسوار والبوابات. التقط التجار النابهون الفكرة ورأوا أنها تفتح أبواب مغارة "علي بابا" لهم. بدأت رحلة التوظيف التجاري للمناسبة على طاولات المطاعم وفي قاعات الكاراوكي، وهي ظاهرة انتشرت في الصين في نهاية القرن العشرين وبداية القرن الحادي والعشرين، حيث توجد أجهزة تسجيل مرئي ومسموع تبث موسيقى كلمات الأغنيات وتظهر كلماتها على الشاشة بينما يرددها الفرد أو المجموعة. ثم دخلت على الخط مواقع الإنترنت التي تعمل في مجال التجارة الإلكترونية، وتدريجيا تحول "يوم العُزّاب" إلى أكبر مهرجان تسوق في الصين، بل وفي العالم.

 

قبل 11/11 عام 2012، بدأت شركات التجارة الإلكترونية الكبيرة في الصين أنشطة ترويجية لـ"يوم العُزَّاب".

 

وفي الحادي عشر من نوفمبر في ذلك العام بلغ إجمالي مبيعات تلك الشركات تسعة عشر مليارا ومائة مليون يوان. وفي ذات اليوم لعام 2013، تجاوزت قيمة مبيعات موقع شركة تاوباو للتجارة الإلكترونية مائة مليون يوان في خمس وخمسين ثانية؛ ووصلت إلى خمسة مليارات يوان خلال ثمان وثلاثين دقيقة. وبلغت قيمة مبيعات مجموعة "علي بابا" في ذلك اليوم خمسة وثلاثين مليارا وتسعة عشر مليون يوان. وفي 11/11 العام الماضي، 2016، تجاوزت المبيعات خمسة وثلاثين مليار يوان في ثلاث ساعات.

 

وأعلنت مجموعة علي بابا أن إجمالي مبيعات متجرها الإلكتروني "تيانماو" وصل إلى واحد وتسعين مليارا ومائتين وسبعة عشر مليون يوان، أي حوالي ثلاثة عشر مليارا وثمانمائة مليون دولار أمريكي، في نهاية اليوم. بالفعل تحول "يوم العُزَّاب" إلى مغارة الذهب لمجموعة علي بابا، وأصبح النجم الأول لهذا اليوم ما يون، المعروف عالميا باسم جاك ما، مؤسس "علي بابا"؛ أكبر شركة للتجارة الإلكترونية في الصين. تحول 11/11 إلى أكبر مهرجان عالمي للتسوق، ولم يعد يوما للعُزّاب أو الشباب فقط، وإنما لكثير من المتزوجين بل وكبار السن.

 

لم تعد وسائل الإعلام تشير إلى 11/11 على أنه "يوم العُزَّاب"، وإنما "مهرجان التسوق".

 

والحقيقة أن الاقتصاد الصيني هو المستفيد الأكبر من هذا اليوم، خاصة مع اتجاه الصين إلى تحويل نمط نموها الاقتصادي، وتراجع معدل النمو السنوي للاقتصاد الصيني إلى أقل من 7ر7% في عام 2012، ليسجل نموا بنسبة أقل من 8% لأول مرة منذ عام 2000، ثم تراجعه في 2015 إلى 9ر6%، وهو أقل معدل نمو سجلته الصين خلال ربع قرن، مع توقعات بأن يكون معدل النمو خلال 2016 بين 5ر6% و6ر6%. تحويل نمط النمو في الصين يهدف إلى الانتقال السلس من اقتصاد تقوده الصادرات والاستثمار إلى اقتصاد يدفعه الاستهلاك المحلي والخدمات. وتشير التوقعات إلى أن اقتصاد الاستهلاك في الصين سوف يصل إلى 5ر6 تريليونات دولار أمريكي بحلول عام 2020، حتى إذا انخفض معدل نمو الاقتصاد الصيني إلى 5ر5%.

 

ثمة أسباب عديدة لنمو الاستهلاك في الصين، في مقدمتها زيادة الدخول، فمنذ عام 2011 يزداد متوسط نصيب الفردالصيني من الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 11% سنويا. السبب الآخر هو أن المستهلكين العاديين في الصين صاروا ينفقون أكثر. يرتبط ذلك بتوسع فئة الدخل المتوسط في الصين. خلال العقود القليلة الماضية، كان المحرك الرئيسي لاقتصاد الاستهلاك في الصين هو مئات الملايين من السكان الذين تخلصوا من الفقر وانضموا إلى فئة الدخل المتوسط. الصين حاليا تدخل مرحلة جديدة، يقود نمو الاستهلاك فيها الأسر ذات الدخل المتوسط التي توسعت بشكل محلوظ. وتشير الدراسات إلى أن حجم الأسر المتوسطة الدخل والثرية سيمثل 30% من سكان المناطق الحضرية بحلول عام 2020، مقارنة مع أقل من 20% حاليا و7% فقط عام 2010.

 

أحد أهم التغيرات في اقتصاد الاستهلاك بالصين هو النمو المذهل للتجارة الإلكترونية وتسوية المعاملات المالية عن طريق تطبيقات الهاتف النقال. في سنة 2010، كانت نسبة الصفقات على الإنترنت تمثل 3% فقط من الاستهلاك الشخصي، ارتفعت هذه النسبة حاليا إلى أكثر من 15%، وأصبح عدد الصينيين الذين يتسوقون عبر الإنترنت يقترب من نصف مليار شخص، مع توقعات بزيادة التسوق عبر الإنترنت بنسبة 20% سنويا حتى عام 2020، بينما ستكون نسبة زيادة التسوق عبر الطرق التقليدية 10% فقط. التجارة الإلكترونية عبر الهاتف النقال في الصين تتطور بشكل مثير. لقد صار أمرا عاديا أن ترى بائعا جائلا في الصين يبيع سلعته البسيطة في الشارع ويحصل على ثمنها من المشتري عبر تطبيق على الهاتف النقال. حجم المبيعات عبر تطبيقات الهاتف النقال يمثل حاليا أكثر من 50% من حجم التجارة الإلكترونية في الصين، مقارنة مع المتوسط العالمي وهو 35%. وعلى سبيل المثال فإن حجم الصفقات التي أتمها موقع تاوباو للتجارة الإلكترونية عبر الهاتف النقال، وليس من أجهزة الكمبيوتر، ارتفع من 51% إلى 62% خلال التسعة شهور الأولى من عام 2015، ووصل إلى 68% في "يوم العُزَّاب" لعام 2015.

 

الوجه الآخر لهذا التحول الاقتصادي هو أسعار المساكن في الصين، فثمة ارتباط بين المسكن والزواج وتكوين الأسرة. وقد حدثني صديقي الصيني ما جينغ تشون بدهشة أنه يتلقى كل يوم مكالمات هاتفية من شركات التسويق العقاري لتعرض عليه شراء مسكنه الذي تبلغ مساحته 120 مترا مربعا في ضاحية بشمال غربي بكين مقابل سبعة ملايين يوان (الدولار الأمريكي يساوي 7ر6 يوانات). وقالت صديقتي الصينية تشانغ لي، مازحة أو مستنكرة، إن زميلة لها اشترت حمّْاما مقابل مليوني يوان، وأوضحت أن زميلتها اشترت مسكنا مساحته ثلاثون مترا مربعا بهذا المبلغ. قد لا يكون ارتفاع أسعار المساكن في المدن الصينية مشكلة كبيرة للشباب الذين يعملون في مدينتهم، فمعظم الأسر في المناطق الحضرية تمتلك بيوتا خاصة بها، ومنها أسر تمتلك أكثر من بيت، ولكنها بالتأكيد معضلة لأي شاب أو فتاة يعمل بعيدا عن موطنه. وأشير هنا إلى حالة واقعية لزميل يعمل معنا في ((الصين اليوم)) وهو ليس من أبناء بكين، كانت القيمة الإيجارية لمسكنه في العاصمة الصينية أكثر من راتبه بألف يوان في بداية عمله!

 

لقد جاء يوم "العُزّاب" وسط هذه التحولات الاقتصادية، ليكون أحد إبداعات الثقافة الصينية المعاصرة. ولعل البعض رأى في البداية أنه قد يكون استراحة قصيرة بعيدا عن زحام العمل وضغوط الحياة المتزايدة، أو نفحة روحية محاطة بالمشاعر النبيلة وسط التكالب المادي المحموم، ولكن قبل أن يتحول هذا اليوم إلى ثقافة حقيقية لها سماتها الخاصة كان قد تم بالفعل استغلاله تجاريا. وكما قالت سوزان ونغ في مقالة لها بصحيفة (هوانتشيو)) "غلوبال تايمز" الصينية في الثامن من نوفمبر 2012، فإن زهور الحب حلت محلها كوبونات الشراء في ذلك اليوم!

 

مقالات متعلقة