اعتبر المفكر الاقتصادي السياسي الأمريكي فرانسيس فوكوياما، فوز دونالد ترامب على هيلاري كلينتون في الانتخابات الرئاسية الأمريكية، دليلا على أن الديمقراطية الأمريكية مازالت ناجحة من احد الجوانب؛ فقد نجح ترامب ببراعة في تعبئة الطبقة العاملة البيضاء، باعتبارها شريحة مهملة من الناخبين لا تحظى بتمثيل كاف، ودفع بمطالبها إلى صدارة أولويات البلاد.
وكتب في مقال نشرته مجلة "فورين أفيرز" أن ترامب سيكون عليه الوفاء بوعوده، وهذا هو مكمن المشكلة. فقد حدد الرئيس المنتخب حديثا مشكلتين حقيقيتين للغاية في السياسة الأميركية: تزايد التفاوت بين الدخول، الذي أضر بالطبقة العاملة القديمة ضررا شديدا، و استيلاء جماعات مصالح منظمة تنظيما جيدا على النظام السياسي. غير أنه للأسف، على حد قول فوكوياما، ليس لديه خطة لحل أي من المشكلتين.
حيث يرجع التفاوت في المقام الأول إلى التقدم في التكنولوجيا وثانيا إلى العولمة التي عرضت العمال في الولايات المتحدة لمنافسة مئات الملايين من المواطنين في البلدان الأخرى.
وأطلق ترامب وعودا هائلة تتعلق بأنه سوف يؤمن عودة الوظائف إلى الولايات المتحدة في قطاعات مثل التصنيع والفحم عن طريق إعادة التفاوض على الاتفاقات التجارية القائمة، مثل نافتا، أو تخفيف القواعد البيئية. ولا يبدو أنه يدرك أن قطاع الصناعات التحويلية الأمريكي شهد توسعا في الحقيقة منذ حالة الركود عام 2008، حتى مع انخفاض العمالة الخاصة بهذا القطاع. والمشكلة هي أن الصناعات المحلية الجدية،اعتمدت بشكل بالغ على التصنيع الآلي. وفي الوقت نفسه، تقلص الاعتماد على الفحم خارج فيما لا يرجع بدرجة كبيرة إلى سياسات الرئيس المنتهية ولايته باراك أوباما البيئية، بقدر ما يرجع إلى ثورة الغاز الطبيعي الناتج عن التكسير الصخري.
ويطرح فوكوياما تساؤلات عن السياسات التي يمكن أن تنفذها إدارة ترامب لمعالجة هذه الاتجاهات: فهل يتجه إلى تقييد اعتماد تكنولوجيات جديدة في الشركات الأمريكية؟ أم لعله سيحاول منع استثمار الشركات الأمريكية متعددة الجنسيات في مصانع خارج البلاد، بينما يأتي جزءا كبيرا من عائدات هذه الشركات متعددة الجنسيات من الأسواق الخارجية؟ ويرى أن الأداة السياسية الحقيقية الوحيدة المتاحة أمامه ستكون فرض تعريفات عقابية، ولكن من المرجح أن تفجر حربا تجارية، من شأنها خسارة وظائف في قطاع التصدير لشركات مثل أبل، بوينج، وجنرال الكتريك.
ويرى فوكويما أن مشكلة استيلاء جماعات المصالح القوية على حكومة الولايات المتحدة مشكلة حقيقية، وكان ف قد تحدث عنها بالفعل باعتبارها أحد مصادر الاضمحلال السياسي في مقال نشرته أيضا مجلة فورين أفيرز، و أشرنا إليه قبل عدة شهور في "مصر العربية" تحت عنوان: "السياسة الأمريكية.. تراجع أم تجدد" غير أنه يعتبر الحل الرئيسي المطروح لهذه المشكلة يكمن في شخص ترامب نفسه، باعتباره شخصا ثريا للغاية بحيث لا يمكن رشوته من قبل جماعات المصالح الخاصة. ثم يعود ليقر بأن ذلك ليس إصلاحا يمكن ان يكون دائما، حتى إذا نحينا جانبا حقيقة أن لديه تاريخا من التلاعب بالنظام لمصلحته الخاصة. واقترح أيضا تدابير مثل حظر سياسة الباب الدوار، بالحيلولة دون توظيف المسؤولين في الحكومة الفيدرالية للعمل ضمن جماعات الضغط. غير أن هذا مجرد تعامل مع أحد أعراض المشكلة وليس معالجة للسبب الجذري، المتمثل في الحجم الهائل للمال المتدخل في السياسة. ومن ثم، لم يطرح ترامب بالفعل أي خطط حقيقية للحل، ومن المؤكد أن أي حل حقيقي يتطلب إلغاء ـ بطريقة أو بأخرى ـ قرارات المحكمة العليا التي اعتبرت في إحدى القضايا أن استخدام المال شكل من أشكال حرية التعبير، وبالتالي يكون محميا دستوريا.
ويخلص فوكوياما إلى أن إصلاح النظام السياسي الأمريكي المتهاوي لا يمكن أن يتحقق إلا عن طريق صدمة خارجية قوية من شأنها تعديل حالة التوازن الحالي، وإجراء إصلاح حقيقي ممكن في السياسة ممكن. وهو يرى أن فوز ترامب شكل بالفعل مثل هذه الصدمة ولكن، للأسف، خطابه الوحيد سلطوي ـ شعبوي تقليدي : ثقوا بي، أنا القائد الكاريزمي، للاعتناء بمشكلاتهم. وعلى غرار ما سببه سيلفيو برلسكوني من صدمة للنظام السياسي الإيطالي، سوف تكون المأساة الحقيقية في تضييع فرصة للإصلاح الواقعي.