الرابع عشر من أغسطس ٢٠١٣ - تاريخ لن ينساه المصريون فهو يوم قتل فيه نحو ألف مصري ودفع البلاد إلى حافة حرب أهلية، ولعل الأقباط الذين نالهم إحراق أكثر من ٨٠ كنيسة واتخذوا من الوطنية موقفا رافضاً للرد على الهجمات بالمثل أو حتى الدفاع عن كنائسهم المغدورة لتكن ثمنا لتحول سياسي كان منتظر. ورغم فداحة الحدث هز ربوع البلاد، إلا أنه مرشح للتكرار، فالبعض ممن اقترفوا هذه الأفعال معروفون بالاسم للأهالي، أحرار طلقاء في القري والنجوع، ومن وصل للمحاكمة كان نصيبه إمتداد المحاكمة لسنوات طرحت العديد من علامات الاستفهام.
لم تكن المرة الأولى التي يتعرض المسيحيين المصريين لهجمات واسعة، التاريخ المصري مليء بأمثلة هجمات مثلت عقاب جماعي للأقباط، تلت فترات الصعود القبطي فكان الانتقام مريرا من أفراد الشعب. ومع تجدد الدعوات لمظاهرات يوم 11- 11 اعتراضا على ارتفاع الأسعار وغلاء المعيشة وتحرير سعر الصرف وازدياد حالة الاحتقان في الشارع ما يهدد بخلل في النظام العام إذا خرجت المظاهرات عن السيطرة تطرح هذه المقالة السيناريوهات المتوقع حدوثها في حال اختلت موازين القوى.
لماذا تصر الكنيسة المصرية على دعم النظام؟
ظهر في الإعلام ازدياد حالة السخط العام ضد الاقباط ولعل احد الاسباب، مواقف الكنيسة المصرية السياسية الداعمة للنظام الحالي، ودعم قداسة البابا تواضروس لتحرك القوات المسلحة في ٣ يوليو، ودعم الدستور بمقولته الشهيرة "قول نعم تزيد النعم" الأمر الذي تلاه مكافأة الأقباط بأكبر عدد من النواب في البرلمان وبقانون حل أزمات بناء وترميم الكنائس، وكانت آخر حلقة في سلسلة دعم الكنيسة لنظام السيسي هي حشد أقباط المهجر لاستقبال السيسي في نيويورك بالولايات المتحدة، وخروج حافلات من أمام الكنائس للحشد لمظاهرة تأييد ودعم له أمام مبنى الأمم المتحدة.
ولعل السؤال الأهم عطفا على هذه الأحداث: لماذا تصر الكنيسة المصرية على دعم النظام رغم التكلفة السياسية التي قد تكون باهظة؟ بل وهناك من رأى أن المسيحيين في مصر لا يمثلون أقلية مضطهدة بل يمثلون "أقلية متنفذة" تمارس قهرا على "الأغلبية المضطهدة" لقربها من النظام الحاكم ووصل الأمر إلى اتهام الكنيسة بالتوظيف السياسي للدين.
ولعل هذه المقولات تغفل أن الكنيسة لا تتحالف مع النظام الحاكم، إلا بعد ممارسة ضغوط عليها للدخول في تحالف مع الدولة بل وخوفا من هجمات المتشددين عليها فتضطر للجوء لأقل الشرين. تفجير كنيسة القديسين كان سابقا لدعم البابا شنودة الرئيس مبارك في ٢٥ يناير ودهس المتظاهرون الأقباط أمام مبنى ماسبيرو كان سابقا لاستقبال البابا شنودة المجلس الأعلى للقوات المسلحة في عيد الميلاد وتجديد التحالف معه، وأيضا الاعتداء الفج علي الكاتدرائية المرقسية بالعباسية في أبريل ٢٠١٣ كان سابقا لدعم البابا تواضروس القوات المسلحة في ٣ يوليو.
وأيضا تغفل هذه المقولات ان المسيحيين ليسوا كتلة سياسية واحدة فإذا كانت الكنيسة آثرت التحالف السياسي مع النظام الحالي هناك العديد من الأقباط من يرفض تدخل الكنيسة في السياسة أو تبنيها موقف سياسي باسم كافة الأقباط، فهناك مجموعات قبطية مثل اتحاد شباب ماسبيرو ترفض مبدأ التمثيل الكنسي المسيحيين سياسيا، بل وتحاول بناء كوادر سياسية قبطية تستطيع المزاحمة في المعترك السياسي بعيدا عن وصاية الكنيسة.
خلفية تاريخية
وليس الأمر قاصرا على حرق الكنائس في السنوات الماضية فحسب فالأمر متجذر تاريخياً، فقد مورس عقاب جماعي ضد الأقباط في مواجهة الصعود القبطي في العديد من الحقب التاريخية القديمة بعد هزات تعرضت لها الدولة في عصر المماليك والعثمانيين. وعلى سبيل المثال لا الحصر، إعلان الجهاد ضد الأقباط خلال محاربة الحملة الفرنسية كان عقاب جماعي غير مبرر للرد على مجموعة آثرت التحالف مع الفرنسيين ضد الحكام العثمانيين وبعد فشل العثمانيين في دحرهم أطلقت دعوى الجهاد ضدهم و وكان العامة يقتلون من يصادفون من الاقباط و لحقوهم حتى حارات النصارى واعتدوا على منازلهم، ونساءهم وأولادهم، وقد ساهم تبوء الأقباط لمناصب إدارية أيام العثمانيين إلى زيادة السخط ضدهم.
ولعل الصعود القبطي الذي تلى ثورة ١٩١٩ وحتي ثورة ٥٢ مع ارتقاء الطبقة الوسطى في تلك الفترة، أثر علي زيادة قوة المد الأصولي الذي كان أكثر وضوحاً بوصول الرئيس أنور السادات إلى السلطة عام ١٩٧٠، وزادت التوترات الطائفية لأتفه الأسباب وكان الظهور القبطي – مثل الصلاة في مكان غير مخصص لذلك – محل استنكار و بمثابة استفزاز للأهالي المسلمة فكان العقاب شاملاً: حرق بيوت و اعتداء على أقباط، واستمر مسلسل العنف طوال السبعينيات الأمر الذي أسس للحلول العرفية وانتهاج المؤسسات الأمنية وسيلة التصالح لإنهاء الصراعات المجتمعية التي استمرت وتفاقمت أثناء حكم مبارك حتى نهاية حكمه.
وتوالت الأحداث منذ ثورة ٢٥ يناير التي بدأت بأحداث كنيسة القديسين بالإسكندرية و كان شرارة لانضمام المسيحيين ل ٢٥ يناير بالرغم من رفض الكنيسة الواضح لذلك تخوفا من بطش الدولة. وما ان نجحت الثورة حتي كانت الاعتداءات المتقطعة علي المسيحيين والكنائس دليلا على الفوضى التي حكمت المشهد السياسي أيام حكم المجلس العسكري حلت أغلبها بحلول عرفية منعت العدالة من اتخاذ مجراها.
واليوم بات معروفا العلاقات المتميزة بين رجال الكنيسة من قساوسة وأساقفة وبين رجال الامن من أهم الاعتبارات لنجاح حل الازمات الطائفية في نطاق الإيبارشية أو المحافظة. فمن المعروف من ان الحلول العرفية الواسعة التي تنتهجها الدولة تكرس بذلك الطريق للتعامل مع مجموع الأقلية من خلال رجل الدين وتساهم في تحويل المسيحيين من مواطنين الي رعايا الكنيسة. و مع ازدياد وتيرة أعمال الشغب والاعتداءات علي أقباط وكنائس كما حدث في نهاية عصر مبارك و الفترات الانتقالية الأولى و الثانية يزداد الشعور بالخوف و يتعزز الاحتياج للجوء إلى الكنيسة.
توترات في المحافظات و دولة غائبة
و مع استمرار غياب تفعيل القانون تتزايد مخاوف من مثل هذه الأحداث في الوقت الحالي. و مع مسح بسيط للمحافظات يتضح لنا مدى القلق من تجدد الهجمات فعلى سبيل المثال لا الحصر حدث إطلاق نار عشوائي في أحدى قرى المنيا تسمى بقرية حلوة و قد لفت احد القساوسة هناك الي أن الحادث قد يكون جزء من مخطط إشاعة الفوضى قبل يوم ١١ نوفمبر الجاري كاشفا أن هناك انتشارا للأسلحة الثقيلة في القرية من المرجح أن تكون مسروقة من ليبيا! و إن دل هذا فيدل على غياب المؤسسات الدولة الأمنية. ولعل الأزمة تتفاقم في المناطق المعزولة مثل القري البعيدة أكثر من المدن و هنا يخضع الأقباط للحلول العرفية لحل الأزمات تقم الأهالي فيها على فرض العرف و تطبيقه. و لعل التركيبات القبلية العائلية تحد من تدخلات الأمن ضد من إعتدوا علي المسيحيين في قرية دلجا علي سبيل المثال. فتكون هذه التركيبة السكانية العائلية سبب وراء الترويج لحلول عرفية قد يتسع نطاقها أو يضيق
وليست المنيا هي المحافظة الوحيدة بالرغم من شيوعها الإعلامي، بل أسيوط من المناطق سريعة الإلتهاب، و يرى الأب لوقا راضي كاهن كنيسة ماريوحنا المعمدان بالقوصية أسيوط أن الصراعات الطائفية في المحافظة بالإضافة إلى كونها موجودة بسبب العنف الطائفي قد تحدث للتغطية على أحداث أخرى كبيرة. ولعل الذين يمارسون أعمال العنف خطف القبطيات وفرض إتاوات عليهم معروفون للجميع و قد خرج بعضهم بفيديوهات على اليوتيوب يتحدون فيه الأجهزة الأمنية أن يلقوا القبض عليهم. يرى الأب لوقا ان لهؤلاء البلطجية استخدامات سياسية تظهر حسب المال السياسي خصوصا ايام الانتخابات يتم استخدامها لدعم مرشحين و ضرب آخرين. فهل تعجز الأجهزة الأمنية من القبض علي مثل هؤلاء؟
بالتوازي يرى آخرون أن بني سويف عرضة أيضا لاشتعال سريع و استعد فيها الاقباط بإلغاء جميع مدارس الأحد على مستوى المحافظة يوم الجمعة ١١-١١ تحسبا لأي هجوم وبالرغم من ان الرأي الراجح يرى أن لا حدوث ثورة جديدة لأن ذلك قد يكون له عواقب وخيمة إلا أنه توقع أسقف بني سويف الأنبا غبريال ان تحدث بعض الهجمات المتفرقة التي شأنها أن تثير المخاوف. و تعددت مخاوف أهالي بني سويف مع قتل فتاة قبطية و سرقة معهد للتعليم العالي يمتلكه قبطي الأمر الذي يذكر بهجمات سابقة و يدق ناقوس الخطر.
موازنات الدولة و مستقبل قلق للأقليات
بالرغم من ان المصريون قد يختلفون في آرائهم وميولهم السياسية فيما يخص النظام الحاكم و موقف الكنيسة المصرية السياسية لكن إن أحدا لا يختلف على أنه إذا اختلت موازين القوى الحالية فإن مصر بأكملها سوف تدفع ثمن انتقال مرير قد يكون لأصحاب الديانة المختلفة ثمنا باهظا في غياب أي آلية ديمقراطية لانتقال السلطة. فإذا حدث مثل هذا الحدث صار لدينا عدد من السيناريوهات المحتملة من زاوية الأقليات.
الأول هو نشوب نزاعات و حرائق مشابهة للتي حدثت ايام فض إعتصام رابعة و قد يضطر المسيحيين في ربوع البلاد دفع الاتاوات و القبول بالحلول العرفية الجزئية والشاملة للتنازل عن حقوقهم. ويعزز هذا السيناريو غياب الدولة وانشغالها تأمين منشآتها وموقعها الهامة.
اما السيناريو الثاني مرتبط بقوة المجتمع المدني لحل الخلافات والنزاعات على الأرض قد يكون صمام أمان إذا تغيرت موازين القوى و ايضا قد يقف ضد تكرار سيناريو الحكم الشبه عسكري. و للأسف مع كسر شوكة المجتمع المدني المصري وقدرة الحوار الداخلي و حل النزاعات، مع ازدياد وتيرة الاستقطاب السياسي و ما رافقه من قمع وتكميم أفواه فإن هذا السيناريو يظل الاقل واقعية.
و لعل السيناريو الأكثر واقعية هو سيناريو بين هذا وذلك ويظل المسيحيين في انتظار المواطنة الكاملة التي لا تفرق بين المصريين على اساس الدين او العرق او اللون و لا تعاقب البعض اختياراتهم السياسية اياً كانت.
****
الكاتبة باحثة سياسية حاصلة على ماجستير تنمية من جامعة لوند بالسويد