قال الدكتور مدحت نافع الخبير الاقتصادي وأستاذ التمويل، إن الحكومة المصرية تختار المسار السهل في حل الأزمات الاقتصادية التي تمر بها البلاد، وهذ المسار يتمثل في تدبير التمويل من خلال الاقتراض، وذلك دون النظر إلى المسار الصعب وهو مواطن الهدر والفقد للموارد والفرص البديلة التي لا يتم استغلاها على الوجه الأمثل ولا حتى على الوجه المناسب.
وأضاف "نافع" خلال حوار خاص مع "مصر العربية" أن أرقام التضخم التي تعلن عنها الحكومة أقل من الحقيقة، متوقعا أن يتجاوز التضخم نسبة الـ20% خلال الأشهر القادمة، بسبب القرارات الاقتصادية التي اتخذتها الدولة في الآونة الأخيرة.
كما حذر من نمو الديون في مصر، مؤكدا أنها أصبحت تمثل النسبة الأكبر والأخطر في عجز الموازنة، حيث وصلت معدلات الزيادة في الاقتراض إلى مستوى غير مسبوق.
وتطرق الحوار إلى أزمة الدولار ومدى قدرة البنوك على استقطاب الدولار من السوق وكذلك المغريات التي تقدمها ونتيجتها على الدين الداخلي كشهادات الاستثمار ذات الفائدة العالية جدا في ظل التضخم الحالي.
وإلى نص الحوار:
-المشهد الاقتصادي الحالي في مصر ضبابي، وأغلب المصريين لا يدركون ماذا يحدث هذه الفترة، كيف ترى هذا المشهد الآن؟
بشكل عام الموقف الاقتصادي الذي نمر به حاليا، مرتبط ببرنامج الإصلاحي الاقتصادي الذي تعمل عليه الحكومة والبنك المركزي، وذلك في إطار التنسيق بين السياسة المالية والتجارية، والسياسة النقدية من ناحية أخرى، إذًا نحن نمر بفترة تطبيق برنامج إصلاحي أستباقا لشروط صندوق النقد الدولي، ولكنه مطابق للشروط التي يضعها الصندوق على مائدة التفاوض قبل الموافقة على تقديم أي قرض لأي دولة.
في الواقع مصر استحقت الحصول على قرض النقد لإن لديها خلل في ميزان المدفوعات بسبب الانخفاض الحاد في المنح والمساعدات التي كانت تدخل البلاد، وبالتالي حدث خلل في الميزان في بعض البنود التي لم تكن تظهر من قبل وأبرزها بند السهو والخطأ الذي بلغ نحو 4 مليار دولار، وهو ما يدل على أن هناك تهريب للأموال خارج مصر في الفترة الماضية.
كل هذه المشاكل كان يجب احتوائها من خلال قرض الصندوق حيث أن أهمية القرض لا تكمن في قيمته فقط، بل إنه يعتبر اعتماد دولي من مؤسسه كبيرة للبرنامج الإصلاح الاقتصادي الذي تسير عليه مصر، هو بمثابة ختم دولي للاقتصاد المصري.
-ما رأيك في اعتماد مصر في برنامجها الإصلاحي على قرض النقد الدولي، وهل كان هناك بدائل أخرى أم أن القرض كان الخيار الأمثل؟
كان لدينا بدائل كثيرة يمكن من خلالها عمل برنامج إصلاحي وطني كما فعلت ماليزيا على سبيل المثال وغيرها من الدول، وعموما الصندوق ليس شرا مطلقا حيث أن له أثر جيد في بولندا وتركيا، ولكن العيب في طريقة التطبيق وليس البرنامج في ذاته، فالنظرية صحيحة ولكن التطبيق يتخلله سرقات وفساد وسوء إدارة، وهذه هي المشكلة.
-لماذا لا تقدم الحكومة برامج وخطط واضحة لإنعاش المصادر الرئيسية للعملة؟
الحكومة تسير في المسار السهل وهو تدبير التمويل من خلال الاقتراض، أما المسار الصعب هو النظر إلى مواطن الهدر والفقد للموارد والفرص البديلة لا يتم استغلاها على الوجه الأمثل ولا حتى على الوجه المناسب، وإذا ما تم استغلال هذه الفرص والموارد نستطيع أن نحصد ثراوتنا بدقة ثم نقرر هل نحن فقراء ونحتاج إلى التمويل من الخارج أم لا، ولكن لسنا فقراء من وجهة نظري، وربما بعد حصر ما لدنيا نكتشف أننا لا نحتاج تمويل من الخارج.
-قرار تعويم الجنيه الذي اتخذه المركزي هل هو تعوم حرا أم مدار، وهل الوضع الاقتصادي يحتمل التعويم الحر في الوقت الحالي؟
هذه مشكلة، فقد ظللنا فترة طويلة التصريحات الرسمية تقول أنه لا يوجد دولة في العالم تقوم بتعويم حر للعملة، وكان الواضح أننا سنذهب إلى سعر صرف أكثر مرونة وهذا أمر منطقي، ويتماشى مع البرنامج الإصلاحي الذي وافق عليه البرلمان، ولكن ما حدث أننا فجأة أصبحنا أمام تعويم حر.
شخصيا أشك في أنه تعويم حر، حيث أن أول جلسة لم يكن التعويم حرا فقد كان هناك سعر محدد وكذلك عطاء من المركزي، وعندما تخطت البنوك هذه الحدود مع بداية جلسة الأحد وجدنا البنوك تستري ولا تبيع وهذا يتعارض مع طبيعة السوق الحر.
كيف سيسهم التعويم في حل أزمة الدولار؟
هناك مشكلة في المعروض النقدي الدولاري وهذا المشكلة موجود في الاقتصاد الحقيقي، ولكن القرارات الأخيرة تفترض إن الناس ستخرج ما لديهم من أموال وتودعها في البنوك، وحتى لو استجب الناس –وهذا صعب- فإن الأموال التي يمتلكونها لا تتجدد، وبذلك ستعود المشكلة من جديد.
الرهان الحقيقي لحل الأزمة كان على مبادرة المستوردين، فإذا استطيع المستوردين تقليل احتياجاتهم بمقدار النصف خلال 3 شهور، نستطيع من خلال هذه المبادرة توفير 10 مليارات دولار وهذا فرق كبير جدا في الطلب، ولكن على أي حال يجب أن يكون هناك سعر خاص للسلع الاستراتيجية مثل الدواء ويجب طرح عطاء خاص لهذه السلع.
-هل البنوك قادرة على إدارة سوق الصرف في ظل نضوب الدولار؟
هذا الأمر يتوقف على قدرة البنوك على استقطاب الدولار من السوق، حيث أن صانع السوق هو من يمتلك كميات أكبر، وفي الوقت الحالي المركزي هو من يمتلك الكميات الأكبر فهو لديه الاحتياطي النقدي، ثم السوق السوداء تأتي في المرتبة الثانية بعد المركزي، والبنك الآن قرر عدم ضخ الدولار في السوق، والدولة تفترض أن السوق السوداء ستتخلى عن الدولار وتقوم بضخه في البنوك ولذلك دعنا نرى هل سيحدث ذلك أم لا، لكن أنا أشك في ذلك.
الآن لا يوجد سقف لسعر الدولار لذلك يجب أن يكون هناك حدود سعرية للدولار يقف عندها لأنه مع طبيعة هذا السوق لن يتوقف عن الصعود ولا يوجد مستوى محدد يقف عنده، لأن الأمر متعلق بالعرض والطلب ونحن نحتاج إلى 6.5 مليار دولار شهريا للاستيراد فقط.
-في ظل الصعود القوي لأسعار الفائدة وصولا إلى 20%، كيف ترى تأثير ذلك على الاقتصاد؟
في البداية العائد على الاستثمار هنا مغري جدا، لكن في ظل التضخم الحالي هذا الرقم غير مغري لأن التضخم يأكل هذه النسب، لذلك يجب أولا أن توفر الحكومة فرص استثمارية بعائدات أكبر من ذلك، كما يجب أن تكون هذه الأدوات لفترة قصيرة، لأن المقصود بهذه الشهادات احتواء الأثر التضخمي، وهذه آداه في يد السياسة النقدية تستخدمها لاحتواء الأزمة.
-هناك توقعات بوصول التضخم خلال الـ6 أشهر القادمة إلى نحو 20%، ما تأثر ذلك على المناخ الاقتصادي وعلى المواطن المصري؟
التضخم الرسمي المعلن من الجهاز المركزي للإحصاء سجل في احد الشهور إلى 16.7% وفي الشهر التالي تم تخفيضه، وأنا كنت مستغرب من جرأة الجهاز المركزي للإحصاء لكن تم تخفيضه رغم أن انخفاضه غير منطقي بل إن المنطقي أن يصعد التضخم، أما بالنسبة للتضخم الأساسي الذي يعلنه البنك المركزي والذي يتخذ على أساسه السياسة النقدية، عموما النسب المعلنه أقل من الحقيقة وأتوقع أن يتجاوز التضخم نسبة الـ20% خلال الأشهر القادمة.
-هناك قفزة كبيرة في ديون مصر سواء الداخلية أو الخارجية، ما الذي يجب أن تفعله الحكومة للحد من استمرار نمو الديون بهذه المعدلات؟
خدمة الدين في الموازنة وصلت إلى الثلث وفي الحساب الختامي للموازنة السابقة اقتربت من النصف، وهذا لأول مرة يحدث حيث أنه كان دائما المكون الأكبر في الموازنة هو الأجور، الدعم كذلك كان رقما كبيرا لكن الآن لم يعد موجودا في مصاف الكبار ولا أعرف لماذا تعتبره الحكومة حتى الآن عائقا.
عموما عجز الموازنة سببه الأكبر والأخطر هو الديون، والحكومة رغم ذلك تواصل الاقتراض، والبعض يرى أن نسب الاستدانة الخارجية آمنة ولكن الخوف ليس من النسبة ولكن من معدل الزيادة، وهو معدل غير مسبوق، والدين الداخلي يثقل كاهل الجهاز المصرفي حيث أصبح متفرغ لسداد ديون الحكومة وكل مكاسبه ورقية من خلال فروق الفائدة، ولا يستثمر بسبب اعتماده على سداد عجز الحكومة.
مصر ملتزمة بالسير في مسار الاستدامة مع الأمم المتحدة والذي من أول شروطها مراعاة حق الأجيال القادمة في الحياة الآمنة وعدم ترحيل الديون للمستقبل، نحن نحتاج إلى رؤية واضحة لحل أزمة هذا الجيل وحتى الآن الحكومة لا تمتلك هذه الرؤية.
-كيف ترى رفع العائد على شهادات قناة السويس من 12% إلى 15.5%؟
تمويل قناة السويس عن طريق شهادات الاستثمار كان خطأ من البداية، وقد كنت مختلف مع طريقة التمويل وقتها، وكان هناك بدائل كثير جدا، يمكن من خلالها تحميل الدين للمشروع وليس للدولة، وما حدث من زيادة العائد ما هو إلى إعطاء سعر تنافسي حتى لا يفك أصحاب الشهادات هذه الشهادة، وهذا يعيدنا للتأكيد على فكرة أن الدافع الوطني لم تكن سبب اتجاه الناس لشراء شهادات قناة السويس، بل إن الإقبال على شرائها كان سببه أنها تقدم أعلى عائد حينها، وعندما وجد ما يقدم عائد أكبر كان الاتجاه لترك الشهادة، لذلك رفعت الحكومة العائد.
-مصر لديها فجوة تمويلية كبيرة وتواصل الاتساع، والحكومة تقوم بسد هذه الفجوة من خلال الاقتراض فقط، ما هي البدائل التمويلية التي يمكن أن تلجأ لها الحكومة بعيدا عن الاقتراض؟
هناك بدائل تمويلية كثيرة لم نقترب منها، والعالم به الكثير من الأدوات التمويلية غير موجودة في مصر، فالصكوك الإسلامية على سبيل المثال نشطه في الكثير من الأماكن ومش موجودة عندنا، كذلك صكوك التمويل بصفة عامل أيضا غير موجودة في مصر، هناك أيضا سندات البنية الأساسية، كل هذه الأدوات تحتاج إلى إطار تشريعي فقط لا أكثر.
نحتاج إلى الخروج من القوالب التمويلية التقليدية المتمثلة في الدين والأسهم، مصر متأخرة جدا في الخروج من هذه القوالب، كذلك هناك البورصة السلعية والتي كنت قد طرحتها في عام 2004 وحتى الآن لم نجد لها واقع تطبيقي بل كانت للاستهلاك الإعلامي وفقط.