سلطت الانتخابات الأميركية الضوء على خطاب سياسي يشهده الغرب منذ سنوات عدة، قوامه انبعاث النظرة العنصرية والتمييز العرقي والديني داخل المجموعات التي يتكون منها كل بلد. لعل أحد العوامل التي ساعدت الرئيس الأميركي دونالد ترامب على النجاح في الانتخابات، دأبه على خطاب عنصري فج بدأ بالهجوم على المسلمين والوعد بمنع دخول جدد منهم الى أميركا، والتهديد بطرد الساكنين على الأرض الأميركية. تضاف الى ذلك، حملته على المهاجرين الآتين من البلاد العربية وأفريقيا، والتشديد على أهمية العنصر الأبيض وتفوّقه مقابل السود والأميركيين من أصل إسباني.
هذا الخطاب أجج «شعوراً قومياً» أميركياً ضد غير الأصليين من السكان أي العنصر الأبيض، على رغم أن الهنود هم السكان الأصليون الذين أبادهم البيض. لم يكن خطاب ترامب لينجح في استقطاب هذا العدد من المقترعين لولا أنه ضرب على وتر التناقضات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية التي تصيب المجتمع الأميركي، فتزيد من عدد الفقراء، وترفع نسب المهمشين الى مستويات عليا. أتى خطاب ترامب ليزوّر أصل المشكلات الاجتماعية ويبعدها من أسبابها الداخلية المتصلة بطبيعة النظام الرأسمالي الأميركي، ويلقيها على عاتق المهاجرين وغير الأميركيين، ويصنّفهم بأنهم السبب في تفاقم أزمات هؤلاء الأميركيين.
لم يغب عن ترامب حجم العنف المتزايد داخل المجتمع الأميركي، لكنه أعاد أصله، في السنوات الأخيرة، الى ما تعرضت له أميركا مطلع هذا القرن عبر هجمات الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) عام 2001، وما تركته هذه الهجمات من أحقاد تتفاعل دوماً ضد العرب والمسلمين. كما لم يغب عن نظره حجم الصراعات بين السود والبيض والقتل المتبادل خلال السنوات الأخيرة، ليصعّد من التمييز العنصري والعداء للسود، في بلد لم تشف ذاكرته بعد من الحروب الأهلية التي اندلعت منذ قرن ونصف القرن، من أجل المساواة في الحقوق بين سائر الأميركيين الى أي عرق انتموا.
هذا العنف المتصاعد لم يقرأه ترامب سوى نتيجة السياسة الأميركية «المتسامحة» مع هذه العرقيات والإثنيات والطوائفيات. لكن هذا العنف المندلع سابقاً، بدأت أميركا تشهد فصولاً جديدة له مع اندلاع التظاهرات ضد انتخاب ترامب وصلت في بعض المقاطعات الى الاصطدام بالشرطة وإحراق العلم الأميركي.
صحيح أن الخطاب الشعبوي لترامب قبل أن يصبح رئيساً، سيكون خاضعاً للتبدل عند استلامه السلطة، خصوصاً في بلد تحكمه مؤسسات ومجمعات نافذة في التسليح والنفط والتجارة... تتحكم بمفاصل القرار الأميركي في وصفها تعبيراً عن هذه المصالح.
لكن ما زرعه ترامب من فكر وثقافة ليس من السهولة في مكان محوه من ذاكرة الأميركيين. فخطاب ترامب، إضافة الى السياسي المباشر فيه، كان خطاباً يلتزم مقولة صراع الحضارات الذي بشر به برنارد لويس وأكمل منظومته صموئيل هانتنغتون، والقائل بأن الصراع المقبل هو صراع بين الحضارة الغربية المسيحية وبين حضارات الشرق، الإسلامية منها والآسيوية.
ما تمت الإشارة إليه في شأن أميركا، له ما يقابله في القارة الأوروبية التي تشهد أيضاً منذ سنوات، تصاعداً في العنصرية ضد غير الأوروبيين، وتحميلهم مسؤولية الأزمات التي تعاني منها شعوب هذه القارة. فاقم الأمر ما تسببت به الانتفاضات العربية والحروب الأهلية التي نجمت عنها في ميدان الهجرة التي وصلت أوروبا بأعداد كبيرة، وما رافقها أحياناً من عنف المهاجرين، ومن مخاوف على الديمغرافيا الأوروبية نفسها. كما في كل بلدان العالم، تضرب الأزمات الاجتماعية الشعوب في كل بلد، فلا يأتي الجواب غالباً من الداخل ليرى الأسباب البنيوية للأزمات، بل يجري تصريفها وتحميل مسؤوليتها الى هذه القوى «الغريبة» المسؤولة عن البطالة والفقر. فنجم عن ذلك صعود في شعبية وقوة أحزاب يمينية متطرفة في فرنسا وبريطانيا، وعودة أحزاب نازية الى ألمانيا وغيرها من البلدان الأوروبية.
ما يشهده الوضع العالمي من تحولات مقرونة بتصاعد الأزمات البنيوية والاجتماعية كانت ذروتها ما عبر عنه انتخاب دونالد ترامب في أميركا، يذكر بالربع الأول من القرن العشرين الذي شهد موجة تطرف قومي في أوروبا، خصوصاً في ألمانيا، وكان سبباً في صعود النازية والفاشية وتفجير الحرب العالمية الثانية لاحقاً.
في هذا المجال، يجب القول أن الديموقراطية في شقها الانتخابي ليست ضمانة في منع صعود قوى معادية لمنطق الديموقراطية نفسها. وللتذكير، أتى هتلر وموسوليني عبر انتخابات كاسحة شعبياً لمصلحتهما، وكانا من أشد المعادين للديموقراطية وقيمها. فلن يكون غريباً أن تكتسح لاحقاً الأحزاب المتطرفة والعنصرية الانتخابات في أوروبا، وتنتج أنظمة تحمل في جوفها عنفاً قائماً على التمييز العرقي والديني، وتمهد السبيل لاندلاع حروب أهلية داخل البلد نفسه أو بين بلدان مختلفة.