لم تكن الحياة السياسية في مصر أنشط مما هي عليه هذه الأيام. ولم تكن فئات مختلفة من الشعب أكثر اهتماماً بكل كبيرة وصغيرة في مجريات الأحداث مما هي عليه حالياً. ولم تكن الحكومة أكثر تفاعلاً مع القوى السياسية وتضامناً مع الاهتمامات الشعبية مما هي عليه الآن. لكن تبقى مشكلة بسيطة، ألا وهي أن الغالبية المطلقة من النشاطات والاهتمامات والتفاعلات تولد من رحم العنكبوت، وتنشأ في أجواء القيل والقال، وتترعرع في تربة الإشاعات ويتم وأدها بنفي واتهامات بالكذب والتضليل لتذهب إلى حال سبيلها كأن شيئاً لم يكن، ثم تبدأ دورة جديدة وهلم جرا.
وقد جرى العرف السياسي الشعبي منذ عقود، على أن تطلق الحكومات المتعاقبة بالونات اختبار الغرض منها قياس الرأي العام، واستشراف حجم الاعتراض، وتقدير أرضية الاحتمال، قبل كل إجراء جلل أو تغيير خطر أو تعديل ملتوٍ. وأدى هذا عبر العقود، إلى ترسخ عقيدة شعبية لدى المواطن بأن ما يتم تسريبه إلى الإعلام، ثم يجري نفيه بعد أيام، ما هو إلا بالونات اختبار، وهو ما أدى إلى موت الثقة في النظام، واعتبار كل خبر ونفيه دليل إثبات.
ثبت بالثورة والفورة والغضبة والتغيير، أن الدنيا في مصر قد تغيرت، ولم تعد بالونات الاختبار واردة، لا سيما بعد ما فقد الوزراء مناعة الالتصاق بالكرسي، واكتسب المواطن قدرة البحث والتنقيب، وتوحشت اللجان الإلكترونية دعماً ومعارضة، وتوغلت القوى الثورية تدويناً وتغريداً حتى صار الحراك أشبه بالفوضى العارمة، والقدرة على تفنيد الأخبار المتداولة وفصل الغث عن السمين أشبه بترويض النمور واستئناس الأفيال والتحكم في الطوفان.
طوفان الهاشتاغات الأخيرة التي اجتاحت مواقع التواصل الاجتماعي المتداولة مصرياً، حرّك مياه القيل والقال العطنة، ومنها إلى دورة جديدة من دورات الأخبار العنكبوتية، المعتنقة إعلامياً، ثم نفي وتكذيب، يتلوهما تفسير وتعليل، ثم هدوء وسكون، انتظاراً لدورة جديدة. فمن «أطفال السرطان يموتون» و «أقسم بالله المرضى لا يجدون الدواء» و «ارفعوا الحظر عن استيراد الدواء» و «مافيش سرنجات» و «السرنجة (الحقنة) تستخدم مرتين بأمر الوزارة» إلى «مافيش سكر» و «السكر فين» و «الشعب عايز سكر» إلى «الدولار يفترس الجنيه» و «الجنيه يركع للدولار» و «احكِ ذكرياتك مع الدولار» إلى «الشعب بيموت» و «الناس بتموت من الجوع» و «الموت أهون»، وجد المصريون أنفسهم في مهب رياح هاشتاغات تواكبت وسلسلة الإجراءات الاقتصادية المؤلمة الأخيرة من قرض الصندوق، وتعويم الجنيه، ورفع جزء إضافي من الدعم على المحروقات.
وبينما الشعب المتصل بالشبكة العنكبوتية ينقب في أغوار الهاشتاغات المميتة، ويغوص في أعماق الجوع والخراب والدمار والهلاك التغريدي، ويدلف إلى كواليس المستقبل المظلم والحاضر المؤلم والأيام السوداء والليالي الغبراء والتهديد والوعيد لكل من يرى نوراً في نهاية النفق أو يأمل يسراً بعد العسر أو تراوده نفسه بالتفاؤل عساه يجد خيراً، يجتهد الوزراء - كل بطريقته - في دحض هذه المعلومة، ونفي هذا الخبر، وتكذيب تلك الاتهامات.
ويُترك الأمر بين يدي المواطن ليستفتي قلبه، فإما يجد نفسه منزلقاً في اتجاه هاشتاغات الموت والدمار والخراب، أو يدفع نفسه صوب التمسك بتلابيب نفي الوزراء وتوضيح المسؤولين، أو لا يجد سلوى سوى في برنامجه الحواري المفضل وحائط صده المختار، أو يجد في نفسه القدرة على إصدار الأحكام وتحديد المسارات وترتيب الأولويات والحكم على هؤلاء وأولئك إما بالبراءة أو الإدانة أو التفاهة.
تفاهة ما يثار عن تعليمات أعطتها وزارة الصحة للأطباء باستخدام الحقن أكثر من مرة (وفق ما حكته وكيل نقابة الأطباء منى مينا انطلاقاً من شكوى طبيب) ليست إلا مثلاً حياً على نشاط الحياة السياسية افتراضياً. ففي خلال دقائق معدودة من مداخلة هاتفية أجرتها مينا مع برنامج تلفزيوني، تحولت كلماتها (التي حاولت بعدها عشرات المرات توضيح ما كانت تقصده، أو نفي ما قالته، أو الالتفاف حول ما فهمه بعضهم من حديثها) إلى قنبلة سياسية واقتصادية وصحية ومجتمعية وشعبية وثورية موقوتة.
وتفجرت ينابيع الهاشتاغات الصابة الغضب الثوري أو المقت «الإخواني» على رؤوس النظام وأنصاره. وتدفقت سيول مضادة من داعمي النظام ومحبي الرئيس تتهم من صدق أو روج أو اصطاد في المياه العكرة لحديث مينا إما بالتفاهة والجهل، أو الخيانة والعمالة، أو «الأخونة» والرغبة في إسقاط النظام أو جميعها.
في الوقت نفسه، وجد أنصار الجماعة في الأجواء الملتبسة فرصة ذهبية للبكاء على أطلال حكم «الإخوان» الذهبي، وندب حظ أول رئيس مدني أتت به الصناديق، والنواح على الشعب المتخاذل والصوت المتهاون مع قليل من التذكرة بضرورة الثورة والعودة إلى الميادين وليكن ذلك في أسبوع «ارحلوا» وفق ما دعا «التحالف الوطني لدعم الشرعية ورفض الانقلاب» في بيانه الأحدث أمس، «فالمرضى لا يجدون الدواء، والفقراء يعانون مع زيادة الأسعار، وسط تكبيل أجيال الوطن بقروض تهدد أمننا القومي وإفلاس وشيك، وقتل متعمد مرفوض للمصريين». وجدد دعوته «المستمرة منذ الانقلاب على شرعية الرئيس الصامد محمد مرسي، لجميع المصريين من أجل الانضمام إلى أسبوع تظاهرات جديد».
وتحوي الساحة رافضين للنظام و «الإخوان» وسكون المصريين يطالبون بإسقاط الأول وإقصاء الثاني ونفض غبار السكوت عن الأخير. وبالقدر نفسه من الحماسة التي تموج بها تغريداتهم وتدويناتهم واستنفاراتهم، تموج كذلك بخواء كامل من الخيارات والبدائل والحلول.
حلول المشاكل الآنية وتصورات الأوضاع المستقبلية وتقويمات الإجراءات والتحركات الماضية دعماً وتأييداً أو كرهاً وتنديداً، تسير على قدم وساق، لكنها في مجملها افتراضية، حيث حكومة تحوي وزراء لا حول لهم أو قوة، وأحزاب تكتب لها يومياً شهادات وفاة شعبية، وشعب يثبت أنه الأكثر ذكاء والأعمق شطارة والأقوى صموداً.
ففي خضم ضرب تحت الحزام متعدد المنابع ضد النظام، وحروب عقيمة في مجملها هاشتاغية وتدوينية على الحكومة، وحراك نيابي يملأ السمع والأبصار لكن يفتقد التأثير الشارعي أو التفعيل الحقيقي، وافتقار إلى قدر مأمول من المكاشفة والمصارحة، وضمور واضح في عضلات السياسة وشرايينها الحزبية، يمضي الشعب قدماً معتمداً على نفسه في تقويم الأمور وتقدير الأخطار وتوفيق الأوضاع.
نقلا عن الحياة