وثائق الأزهر ... المرجعية الدينية في أزمنة التغيير

على رغم تعرّض المؤسسات الدينية التقليدية، في العقود الأخيرة من القرن العشرين، إلى العديد من المشكلات والأزمات الكبرى داخلياً وخارجياً؛ والتي كان بعضها بسبب الضغوط الهائلة التي مورست من جانب السلطات والأنظمة الحاكمة عليها قصد الهيمنة الكليَّة، وكان بعضُها الآخر بسبب سحب بساط السّلطة وانتزاع حق التمثيل الرسمي والحصري للدين في المحافل والمناسبات والقنوات الإعلامية لمصلحة جماعات الإسلام السياسي، والدعاة الجدد، واتساع رقعة مستخدمي شبكات التواصل الاجتماعي، وما رافق ذلك من اختلاط المفاهيم واختلالها، واختراق المؤسسات الدينية وأدلجتها، وغلبة خطابات الحاكمية، وتطبيق الشّريعة، والولاء والبراء، ودار الحرب ودار الإسلام، والدعوة إلى قيام نظام حكم إسلامي ...إلخ - فإنها لا تزال تحظى بمكانة رفيعة في المجتمعات العربية الإسلامية؛ فضلًا عن مكانتها التاريخية التي ساهمت بطبيعة الحال في ترسيخ سلطتها جماهيرياً.

عدا مصر، والمملكة العربية السعودية، والمملكة المغربية، ضعفت المؤسسات الدينية التقليدية في غالبية البلدان العربية، وانتهى وجود بعضها واقعياً. وبالإضافة إلى ما سبق أيضاً، هنالك - بطبيعة الحال - مشكلة الترهل الكبير الذي عانت منه المؤسسات الدينية التقليدية: إمَّا بسبب الظروف التي أحاطت بنشأة وتطور مفهوم «الدولة الحديثة» والمجتمعات الحديثة، وما نتج منه من إحساس كثير من ممثلي تلك المؤسسات بفقدان الهم التجديدي الضروري لمواكبة العصر ومستجداته؛ فضلاً عن فقدان الهمة، وإمَّا بسبب إخفاقات تجارب السابقين في هذا المضمار وتهاوي مشاريع الإصلاح والتجديد من الداخل بفضل سيطرة التيارات المحافظة التقليدية؛ كما حدث في تجربتي الإمام محمد عبده (1849 - 1905م)، وتلميذه الشيخ مصطفى المراغي (1881 - 1945م) الإصلاحيتين بصفة خاصة.

صار التلازم ما بين الوظيفتين: الدينية والسياسية سائداً في تاريخ الأزهر كله؛ حتى عندما أصدر قاضي القضاة صدر الدين بن درباس فتواه بعدم جواز أن تقام خطبتان للجمعة في مدينة واحدة؛ واستناداً إلى ذلك قرر صلاح الدين الأيوبي إغلاق الجامع الأزهر وإقامة صلاة الجمعة في جامع الحاكم بأمر اللَّه؛ فإن قرار إغلاقة أيضاً - والذي استمر لمدة ثمانية وتسعين عاماً (567- 665هـ)- كان في جوهره سياسياً بالدرجة الأولى؛ باعتباره ممثلا ورمزًا للدولة البائدة.

لكن ما إن تهاوت مشاريع الإصلاح والتجديد في النصف الأول من القرن العشرين حتى دخل الأزهر طور الحيرة والتردد، مثلما عانى من التقلبات العديدة التي شهدتها المنطقة العربية والإسلامية. وكان هذا جزءاً من المناخ العام الذي هيمن على مصر بصفة خاصة منذ انقلاب تموز(يوليو) 1952 وما تبعه من تجفيف منابع التعددية السياسية والدينية، وهيمنة حركات الإسلام السياسي على المجال العام بالتوافق مع الأنظمة السياسية، وصولاً إلى اللحظة الفارقة التي غيرت موازين القوى السياسية والاجتماعية والدينية؛ لحظة اندلاع الثورة في الخامس والعشرين من كانون الثاني (يناير)2011.

هل كان في إمكان الأزهر، أو أية مؤسَّسة أخرى مهما كان حجمها، أن تتجاهل حدثاً كهذا؟ بالطبع لا؛ لا لأن الحدث فرض نفسه على الجميع من دون استثناء فحسب؛ بل ولأن الفرصة كانت مواتية للتغيير الذي طالما طمحت إليه الشعوب العربية، وفي القلب منه التغيير على مستوى المؤسسات الدينية.

ضمن هذا السياق صدر عن دار «سجال للنشر والتوزيع» في القاهرة كتاب جماعي بعنوان: «وثائق الأزهر المرجعية الدينية ما بعد الثورة»، من إعداد وتقديم كاتب هذه السطور بالاشتراك مع الدكتور أحمد عبد السلام؛ أستاذ العقيدة في جامعة مونستر- ألمانيا. ويتضمن الكتاب مجموعة من الدراسات والأبحاث التي أنجزها باحثون مهتمون بشأن الأزهر: جامعًا وجامعةً، وفيما شارك بعضهم في الجلسات والمناقشات التي أنتجت «وثائق الأزهر» - موضوع هذا الكتاب - عمل بعضهم الآخر على ترجمتها ونشرها بلغات أجنبية عديدة؛ إيماناً منهم بدور الأزهر في مواكبة الأحداث السياسية ومشاركة المجتمع المصري والعربي زخم ثوراته.

وعلى رغم أن الأزهر أراد أن يلعب في تلك المرحلة الحرجة دور الوسيط لكن الأمر انتهى به لأن يصبح مرجعًا وعاملًا نشطًا في إنتاج الخطاب السياسي والديني العام. ومع أننا قد نختلف قليلاً أو كثيرًا مع الأزهر كمؤسسة، كما نختلف في تقدير دوره وأداء رجالاته، إلا أننا ننطلق في اختلافنا هذا من منطق الحرص على «الوسطية»، والغيرة على الأزهر، والرغبة الصادقة في استعادة أدواره التاريخية بمعزل عن تأثيرات السلطة الزمنية وتحولاتها.

فاتحة الدراسات للمفكر اللبناني الدكتور رضوان السيد، أحد الذين تربوا على ثقافة الأزهر ونهلوا من معارفه؛ وهي بعنوان: «وثائق الأزهر خلال الثورة وآفاق الإصلاح الإسلامي»، يتفحص فيها بعين الخبير الناقد جملة التحولات التي طرأت على مؤسسة الأزهر، والثوابت التي انطلق منها في إصدار وثائقه، والغايات من وراء ذلك، وصولاً إلى تأكيد تشبعها بالروح الإصلاحية والنهضوية من جهة، وبروح التقليد العريق الذي لا يهتز ولا يخشى اتخاذ الموقف الجريء مهما كانت المحاذير من جهة أخرى.

في دراسته الموسومة «وثائق الأزهر وصون الدين والمجتمع في الزمن الحاضر»، يستعرض الدكتور أيمن فؤاد سيد بنود وثائق الأزهر، موضحاً جملة السياقات السياسية والثقافية التي ساهمت في تشكيلها على النحو الذي يحفظ ويصون الدين من التهميش أو التوظيف السياسي. وفي سياق مشابه، يعرض لنا الدكتور أحمد عبد السلام في ورقته «المؤسسة الدينية وإدارة الدولة / المجتمع: قراءة في وثائق الأزهر»، ملابسات اللحظة التاريخية الفارقة التي تمخضت عنها الوثائق، مؤكداً أن الأزهر لم ينحاز إلى شباب الثورة؛ وإنما انحاز في المقام الأول والأخير إلى مصر والثورة ولإرادة التغيير.

أما الباحث أحمد عبد الرحيم؛ فقد اختار أن يسلط الأضواء في دراسته «وثائق المؤسسة الأزهرية منذ ثورة 25 يناير: دراسة تحليلية نقدية» على جملة «المواقف»؛ بل والتناقضات التي طبعت رد فعل الأزهر تجاه ثورات الربيع العربي. كما رصد غلبة المنحى الترددي إزاء الأحداث، ما انعكس سلباً في تأخر الإعلان عن دعم الانتفاضات، أو اللجوء إلى اتخاذ معايير مزدوجة في الحكم عليها، منتهياً إلى تقرير أن الوثائق مثلت نقلة نوعية في طرح المؤسسة الأزهرية بوصفها الإسلامي الأعم، وبوصف شيخها إمامًا للمسلمين في أنحاء العالم كله، وليس مجرد «موظف حكومي» كما كان عليه الشأن آنفًا.

وبحث الدكتور محمد عبد الفضيل عبد الرحيم في ورقته «وثائق الأزهر: المرجع، المرجعية، التجديد»، الوثائق التي صدرت عن المؤسسة الأزهرية بوصفها امتداداً لوثائقه وبياناته التي شارك بها قديماً حياة النضال المصري، والتي أكد فيها عملياً دوره المؤثر في الحركة الوطنية. أما الدكتور عاصم حفني فقد خصص ورقته «الأزهر ودستوري مصر 2012 - 2014»، للحديث عن موقع المؤسسة الأزهرية في خضم التعديلات الدستورية، وما لحقها من كتابة دستورَي العام 2012 والعام 2014، مسلطاً الضوء على جملة الملابسات التي أحاطت بتلك الوضعية وتبدلاتها في ظل حكم جماعة الإخوان المسلمين.

أخيراً قارب الأستاذ محمود عبداللَّه النزلاوي في ورقته: «الحوار والتعددية في الأزهر بين المراغي والطيب»، واقع الحوار في الأزهر ممثلاً في شخص كل من: الشيخ المراغي والشيخ الطيب. مؤكدًا أن تجميد العلاقات مع الفاتيكان أدى إلى انكماش الأزهر على الصعيد الدولي، رابطاً بين الحوارات التي تمت على المستوى الداخلي بين أطياف المجتمع المصري المختلفة في صياغة وثائق الأزهر، وبين الحوار على مستوى الإسلام والمسيحية، أو الأزهر والفاتيكان على وجه الخصوص.

ولا شك في أن المقاربات المقدمة بين دفتي هذا الكتاب قد نجحت في تسليط الضوء على السياقات العامة التي رافقت الوثائق في نشأتها، وتقييمها والحكم عليها في شكل موضوعي. فقد دفع حراك الخامس والعشرين من يناير في العام 2011 المؤسسة الدينية إلى أن تخرج عن صمتها، وتعلن وقوفها في صف المطالبة بالتغيير، مدفوعة في ذلك بمجموعة من الثوابت الوطنية، والدينية التي ما فتئت ملازمة لها في أحرج الأوقات تاريخياً. أما حجم التغيير الذي نتج من انخراطها في خضم الثورة؛ فلا يزال في أمس حاجة إلى تفحص ناقد وواع بسبل، ومسالك، ومآلات التغيير.

 

نقلا عن الحياة

مقالات متعلقة