مصر: الساعة السكانية تقارب الانفجار ... والدعم يتجه نحو الاندثار

الجهاز المركزي للتعبئة العامة والاحصاء

في وقت كان العداد يدخل صراعاً محموماً مع الزمن ليعلن تفوقه عليه كاسراً حاجز الـ92 مليوناً، يعلن القابعون أسفله والمتكسدون وراءه والمحبوسون على مرمى حجر منه والمختنقون تحت أرضه، أنهم لا يلقون له بالاً ولا يلتفتون إلى دقاته، على رغم أن جانباً كبيراً مما هم فيه من ضغوط رهيبة وصعاب مريعة وقيود شديدة يعود إلى هذه الدقات المتلاحقة التي تعلن مع كل دقة عن حاجة جديدة إلى طعام وشراب ومأكل وعلاج ووظيفة وسكر لزوم كوب الشاي.

وفي المشهد العبثي ذاته الدائرة رحاه في شارع صلاح سلام حيث الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء وساعته السكانية المثبتة على ارتفاع يعلن انضمام 2366 مولوداً جديداً إلى التعداد السكاني أمس فقط، وبينما السيارات متكدسة تكدساً بدا أنه أبدي، إذ بضابط المرور الواقف بلا حول أو قوة يطالب بتفتيش إحدى السيارات. قائد السيارة برر وجود مئات أكياس السكر المدعم في حقيبة سيارته بأنه «لزوم الشاي يا باشا».

وأمام عدم اقتناع «الباشا» بالتبرير، وهرج قادة السيارات المتكدسة ومرج المحبوسين في الباصات المتاخمة مطالبين بتوقيع العقوبة على «المهرب اللعين»، تحفظ «الباشا» على الصيد الثمين وأبعد المهرب من المشهد المحتقن، ليفسح المجال لأحاديث الزحام محللة ومنتقدة ومفسرة ومعللة مشاكل مصر من دون الدق على الوتر الأقوى، ألا وهو تسونامي المواليد والملقب في زمن الزحام الوسطي الجميل بـ «سباق الأرانب».

كيلو لحم الأرانب الذي يعشقه المصريون بالملوخية الخضراء تعدى سعره خمسين جنيهاً، والبصل ثمانية جنيهات، وربع كيلو الشاي 14 جنيهاً، واللحوم غير وارد الحديث عنها أصلاً، وأدوية غير موجودة، وبدائل لها غير متوافرة، وشكاوى لا تتوقف من الأسعار والرقابة على الأسواق والحلول الجذرية الغائبة والعوامل المجتمعية التي أدت إلى هذا الوضع الصعب. ولم تترك أحاديث المواطنين مجالاً إلا وطرحته، أو سبباً إلا وفندته، أو حلاً إلا وشرحته، وذلك باستثناء واحد ألا وهو الزيادة السكانية غير المسبوقة.

سبق وخاضت مصر سنوات من الجهود لإقناع المواطنين بتهدئة سباق الأرانب. بلايين أنفقت، وجهود أهدرت، وعقول أنهكت على مدار ما يزيد على ثلاثة عقود. وبدل أن يقتنع المصريون بأن «الرجل مش بس بكلمته، الرجل برعايته لبيته وأسرته»، أصبحت 35 في المئة من البيوت المصرية ترعاها النساء. وبدل أن يرتدع حسنين وزوجته ويتوقفا عن الإنجاب، بالغا في التكاثر، بل جعلا محمدين يتخلى عن موقفه العقلاني في إعلان تنظيم الأسرة، وبدل تحكيم عقله والاكتفاء من الولد باثنين كما فعل في الثمانينات، دخل السباق تحت تأثير الخطاب الديني الرافض للتنظيم.

تنظيم الأسرة كوسيلة لكبح جماح القنبلة السكانية الآخذة شظاياها في إصابة الجميع، ضغطاً على الدعم الواهن، وجرحاً للجنيه النازف، وإنهاكاً للبنى التحتية المتهالكة، وبناء على الأراضي الزراعية المحدودة، واستنزافاً للخدمات العامة المأزومة، والمتحولة أرضاً خصبة لانتفاع الجماعات الدينية المتطرفة وجماعات المصالح المتسلقة لم يعد خياراً، لكنه في الوقت ذاته ليس مطروحاً بقوة على الساحة الرسمية.

رسمياً يجد المسؤولون أنفسهم مضطرين إلى التفرغ للإدلاء بتصريحات نافية لما يتوارد من أخبار عن نقص وسائل التنظيم في الصيدليات ومراكز الرعاية الطبية وصحة المرأة. وسياسياً يجد الوزراء أنفسهم منغمسين في متطلبات الساحة المرتبكة والتعاملات مع القضايا الآنية من أزمة اقتصادية وأسعار سلعية ومشاريع قومية ومتابعات يومية.

لكن دينياً يجد المسيطرون على الساحة أنفسهم ينعمون بحرية الإفتاء، ويسيطرون على أدمغة البسطاء، ويرتعون في المجال الخواء. الأسئلة الواردة إلى ممثلي الجماعات الدينية المستترة والتي مازالت تعمل بعيداً من الأضواء وفي مأمن من دعوات تجديد الخطاب الديني والمتعلقة بتنظيم الأسرة أو تحديد النسل لا تجد إلا إجابة واحدة. «الأصل حرمة استعمال هذه الأمور، لأن الأصل تكثير سواد المسلمين وعددهم، إلا إذا كان هناك مانع معتبر شرعاً»، بل ويضاف إلى ذلك تحريم كامل للّولب النسائي «لما فيه من الدقة في النظر إلى عورة المرأة، وهذا يحرم حتى من المرأة مع المرأة إلا لضرورة». وتكلل الفتاوى الضاربة عرض الحائط بسباق الأرانب بتحذير ممن يتكلمون عن محدودية الرزق وأفضلية توزيعه الرباني بين أصحاب الخلفة الكبيرة فيرد في الفتاوى: «واحذر أن تتأثر بمن يتكلم عن الرزق، ومن أين أطعمهم ونحو ذلك من كلام المغفلين. وما يدريك لعل ولداً يُنجب لك فيكون سبباً لدخولك الجنة، أو يكون هذا العالم المجدد الذي يفتح الله به البلاد والعباد». لكن في هذه الأثناء تظل البلاد تعاني الأمرّين تحت وطأة موارد طبيعية محدودة مأزومة وأخرى صناعية مشلولة، ويظل العباد واقفين في شارع صلاح سالم حيث الساعة السكانية تدق بينما هم غافلون.

الغفلة عن إدراج شرط تنظيم الأسرة ضمن الشروط المقترحة للحصول على الدعم سواء بحالته العينية الحالية من الشاي والسكر والزيت أو على هيئته المالية المقترحة لا تنبع من فراغ، فعلى رغم حديث تجديد الخطاب الديني، وتبسيط إجراءات الإنجاب بغض النظر عن عدد المرات، يفخر حسين حارس العقار بأبنائه السبعة عزوته ومصدر دخول إضافية أملاً في أن يبني بيتاً في بلدته على ما تبقى من أرض زراعية. كما يسعد أستاذ محمد ساكن العقار بأبنائه الستة الذين يأتي كل منهم برزقه ورزق يومه وغده بعدما حذره إمام المسجد من مغبة التحديد، لا سيما وأنه مقتدر.

يُشار إلى أن موقع «ساعات الدول السكانية» يشير إلى تعداد قوامه 94 مليوناً و303 آلاف و137 مصرياً حتى ظهر يوم أمس، أي بزيادة قوامها نحو مليونين عن الساعة الوطنية في شارع صلاح سالم.

 

نقلا عن الحياة

مقالات متعلقة