تصوروا أعزائى القراء أن أحدكم أو إحداكن أصبح مستشارا للرئيس عبدالفتاح السيسى، وطلب منه أو منها أن يبدى له الرأى فى مسألة قانون الجمعيات الأهلية الذى أحاله مجلس النواب بعد أن وافق عليه فى جلسة قصيرة إلى مجلس الدولة لإبداء الرأى فى صياغته القانونية، فماذا تتصورون أن يكون مضمون ما سينقله هذا المستشار للسيد الرئيس؟ ربما يخمن ما يتوقع أن يميل له الرئيس، ويقول له ما يحب أن يسمعه، ولكن تصوروا معى أن هذا المستشار لا يطمع فى منصب، ولا يريد أن يجيب الرئيس إلا بما يرضى ضميره، وما يعرفه من واقع قراءاته المتنوعة، ومعرفته بتطلعات المواطنين فيه، وإيمانه بأن الرئيس عندما يكرر فى زياراته الخارجية أنه يعمل على بناء دولة ديمقراطية حديثة ومدنية، فإنه يعنى حقيقة كل كلمة فى هذه العبارة.
سيقول هذا المستشار للرئيس إن قضية الجمعيات الأهلية هى فرع من قضية أوسع، وهى قضية العمل الأهلى أو المجال العام، وأنه إذا كانت ثورة 30 يونيو هى امتدادا لثورة الخامس والعشرين من يناير، فإن توسيع المجال العام وتعزيزه هو واحد من أهداف هذه الثورة، بل فى الواقع فإنه يتصل بثلاثة من أهدافها، فهو لا يتعلق فقط بالحرية، ولكنه يتعلق أيضا بالكرامة الإنسانية وبالعدالة الاجتماعية. علاقة المجال العام بالحرية أمر واضح، فليس هناك مجال عام لا يتمتع فيه المواطنون بحرية الرأى والتعبير والتنظيم، وهو ينهض الكرامة، أى على أساس الاعتراف بالقيمة المتساوية لكل البشر فى العقل والضمير، ومن ثم لا يجوز للبعض منهم أن يحتكر التفكير والتعبير نيابة عن كل المواطنين، لأن ذلك يعنى أنه يتصور أن قيمته تعلو على قيمة المواطنين الآخرين، كما أن المجال العام يستلزم قدرا من العدالة الاجتماعية، فإذا كانت الفوارق الاجتماعية واسعة بين المواطنين، لحول الأكثر ثراء بعض ما يملكون من موارد للتأثير على المواطنين الآخرين، ومن ثم ينتفى شرط المساواة فى القدرات على الحوار ومقارعة الحجة بالحجة والتى هى أساس الانخراط فى أنشطة المجال العام. وقد يضيف هذا المستشار أن وجود المجال العام وتمتع المواطنين داخله بجميع الحريات التى يضمنها لهم الدستور ليس أولا بمثابة حق طبيعى لهم، ولكنه أيضا ضرورى للحكومة حتى تستنير بآرائهم، وهو الضمان بأن ضيق المواطنين ببعض سياسات الحكومة لن يتحول إلى احتجاجات عارمة تقوض الاستقرار السياسى، أو إلى استخدام للسلاح فى مواجهتها وممثليها وقادتها على نحو يهدد أمن الجميع حكاما ومحكومين.
ماذا تتصورون أن يكون عليه رد الرئيس؟ من المتصور أن الرئيس لن يبدى رأيا على الفور، ولكنه سيطلب منه أن يشرح هذه الفكرة لعدد من العاملين فى مكتبه، بل وقد يطلب منه أن يلقى محاضرة عن هذا الموضوع أمام الشباب الذين يشاركون فى البرنامج الرئاسى لإعداد الشباب للقيادة، وقد يعطيه الرئيس مهلة كافية لإعداد عناصر هذه المحاضرة، وينصحه بأن يترجم هذه الأفكار النظرية إلى أمثلة محددة مستمدة من الواقع المصرى. لو تصورتم أعزائى القراء أن هذا المستشار سيطلب منكم النصيحة بشأن ما سيقول فى محاضرته، فماذا عساكم تشيرون به؟ أظن أن مشورتكم سوف تتضمن النقاط التالية:
أولا: تعريف المجال العام:
المجال العام ليس مكانا محددا ولكنه يشمل كل المؤسسات والممارسات التى يتمكن المواطنون من خلالها من مناقشة القضايا العامة التى تهمهم، سواء تعلقت بالسياسات الداخلية مثل الأسعار ومستوى المعيشة وأحوال الخدمات العامة وأوضاع الحقوق أو تناولت السياسات الخارجية مع جميع أقاليم العالم. المجال العام يشمل النوادى الثقافية والجمعيات والنقابات المهنية والنقابية واتحادات أصحاب العمل، كما يشمل أدوات التعبير مثل الصحافة والإذاعة وقنوات التليفزيون والمسرح والسينما. هذا المجال العام يختلف عن المجال الخاص مثل الأسرة وجماعات الأصدقاء والتى يناقش فيها أفراد المجتمع الأمور التى لا تهم سوى غيرهم. هؤلاء الأفراد هم أشخاص فى المجال الخاص، ولكنهم مواطنون يلتقون مع غيرهم من المواطنين فى المجال العام ليتفاعلوا حول أمور تمسهم جميعا كأعضاء مجتمع سياسى. وهو الإطار الذى يتشكل داخله الرأى العام. المجال العام مفتوح للجميع، والمجال الخاص مغلق على روابط القرابة أو الاستلطاف، وحتى لو ناقش أفراده قضايا عامة، فهذا أمر استثنائى، ومقصور على أفراده.
ثانيا: هل هناك شروط وقواعد للعمل داخل هذا المجال العام؟
المجال العام الواسع والمتنوع والذى يتمتع بالاستقلال فى مواجهة الحكومة والبرلمان ومؤسسات السوق الهادفة للربح هو سمة أساسية للنظم الديمقراطية، ويعتبر تعدى الحكومة أو الشركات الخاصة على المجال العام نوعا من الاستعمار له وإخلالا بقواعد حريات التعبير والتنظيم الضرورية لأداء دوره فى ترشيد الحكومة التى عندما تستجيب للاتجاهات الغالبة فيه تكتسب الشرعية. ولذلك تسعى النظم غير الديمقراطية للسيطرة على المجال العام بتقييد حريات التعبير والتنظيم، أدوات الإعلام فيها مملوكة للدولة، والحزب الواحد يسيطر على النقابات المهنية والعمالية، والخطاب الذى يتلاعب بمشاعر المواطنين هو الخطاب السائد.
المجال العام بالمعنى الصحيح، كما جاء فى كتابات من طرحوا هذه الفكرة وفى مقدمتهم الفيلسوف الألمانى يورجن هابرماس، ينهض على الأسس التالية:
1ــ شمولية المشاركة أو إتاحتها لكل المواطنين.
2ــ استقلال مؤسسات وأنشطة المجال العام عن التحكم أو القمع أو الإغواء من جانب الحكومة أو الشركات الخاصة.
3ــ المشاركة فى المجال العام تقوم على المساواة، وتختفى فيه أى تراتبية.
4ــ احترام سيادة القانون.
5ــ أساس التفاعل داخل المجال العام هو مقارعة الحجة بالحجة وليس اللعب على المشاعر أو استخدام لغة التخوين، والذى يكسب داخل المجال العام هو من يطرح حجة أكثر وجاهة وأكثر احتراما للعقل.
ثالثا: ما هى جدوى هذا المجال العام؟
المجال العام هو إطار التفاعل بين المواطنين حول القضايا العامة، ومنه تخرج أفكار عديدة حول كيفية التعامل مع قضايا الوطن، وتتولى النقابات والجمعيات المختلفة بل والمواطنون الأفراد طرحها على المواطنين الآخرين إما مباشرة من خلال أنشطتهم، أو على نحو غير مباشر من خلال أدوات الإعلام ومن خلال المثقفين والخبراء الذين يتبنون وجهات النظر المختلفة، وهم إما ينقلونها للأحزاب السياسية أو تسعى الأحزاب السياسية للتعرف عليها، وتعيد طرحها كمقترحات بسياسات عامة تدافع عنها فى المجالس النيابية التى تقوم بصياغتها فى صورة قوانين أو سياسات توصى بها الحكومة التى تقوم بتنفيذها.
المجال العام بأنشطته هذه مفيد للمجتمع وللحكومة. مفيد للمجتمع لأن مؤسسات المجال العام خصوصا الجمعيات تقوم بدور تنموى فى تقديم الخدمات الصحية والتعليمية للمواطنين ومكافحة الفقر فضلا عن أدوار أخرى، ومفيد للحكومة لأنها تشاركها فى تحمل بعض مهامها الاقتصادية والاجتماعية فى وقت تعجز فيه بسبب عجز مواردها عن القيام تماما بهذه الأدوار. فضلا على ذلك يعتبر المجال العام مهما للحكومة التى تتعرف من خلاله على مدى أهمية القضايا المختلفة لدى المواطنين وأولويات هذه القضايا، بل ومثل هذه المشاركة لا تأتى فقط ممن تتعلق مصالحهم بهذه القضايا، ولكن من أصحاب الخبرة فى النقابات المهنية والعمالية والجمعيات العلمية، والذين يطرحون على الحكومة بدائل متعددة للسياسات فى المجالات المختلفة مثل سعر صرف العملة الوطنية، أو كيفية تسويق الحاصلات أو الأسلوب الأمثل فى مواجهة الإرهاب إلخ. استجابة الحكومة لاهتمامات الرأى العام كما تتجلى من خلال أنشطة المجال العام يعمق شرعيتها بقبول المواطنين لها، كما أن مثل هذه الاستجابة تجعل المواطنين أكثر ولاء والتزاما بنظامهم السياسى، ويعنى ذلك كله توطيدا للاستقرار السياسى.
ولكن كثرة التضييق على المجال العام تجعل المواطنين ينصرفون عن مؤسساته، وتجعل البعض منهم يفكر فى وسائل أخرى للتعبير عن آرائه بالنسبة للقضايا العامة التى أهملتها الحكومة، على نحو ما شهدنا فى احتجاج المواطنين النوبيين على تهميشهم فى مشروعات الحكومة، بل وقد تدفع البعض منهم إلى رفع السلاح فى مواجهة الحكومة إن لم يكن من الممكن استيعابه فى أنشطة مؤسسات وممارسات المجال العام. تدخل الحكومة فى المجال العام يجب أن يقتصر فقط على وضع القواعد التى تسهل عمله وفقا للدستور والتزاماتها الدولية.
رابعا: ما هو وضع المجال العام فى مصر؟
المجال العام فى مصر يخضع للتقليص المتزايد منذ ثلاث سنوات، قانون الانتخابات صدر بهدف تهميش دور الأحزاب السياسية، وتدخلت أجهزة الأمن فى اختيار مرشحى مجلس النواب وانتهى الأمر بمجلس نواب لا يمارس دوره الرقابى على الحكومة، ولا يناقش بتعمق أى قضية تهم المواطنين، ويهدد تنفيذ عقوبة السجن أعضاء مجلس نقابة الصحفيين ثانى أعرق النقابات المهنية، وتماطل الحكومة فى إقرار قانون يعترف بالحريات النقابية، وأخيرا وافق مجلس النواب على مشروع قانون يفرض قيودا متشددة على إنشاء ونشاط الجمعيات مما قد يؤدى إلى شلل عمل القطاع الأهلى وإخضاعه للرقابة من جانب أجهزة الأمن، وهو ما يكشف عن نظرة الشك التى توليها الحكومة تجاه أى نشاط عام مستقل. وفضلا على ذلك فحريات الرأى والتعبير، وهى أساس العمل فى المجال العام، قد ضاقت بالفعل كثيرا، فانكمشت حدود التنوع فى الآراء فى الصحف وقنوات التلفزيون، والأمثلة أكثر من أن تعد بغياب أسماء بارزة ذات توجهات مستقلة عنها، بل أصبح تنظيم اجتماعات عامة لمناقشة قضايا التنمية ومشروعاتها فى مصر أمرا صعبا للغاية، وهو الدرس الذى تلقاه أخيرا المهندس الدكتور ممدوح حمزة الذى امتنعت مكتبتان عامتان فى القاهرة عن السماح له بمناقشة كتاب له حول هذا الموضوع فى أى من قاعاتها، وزحف أصحاب العمل ممن لهم أجندة سياسية هى موضع الرضا ممن يحكمون مصر على الصحف وقنوات التلفزيون، ليديروها على نحو يستبعد البرامج الحوارية ومقدميها ذوى المصداقية وإعادة توجيهها بالتركيز على الرياضة والمسلسلات التلفزيونية التى تلهى المواطنين عن مشكلاتهم الحقيقية.
وماذا تتصورون أعزائى القراء أن يكون عليه الاستنتاج الأخير لهذا المستشار؟
التحليل الذى قد يقدمه بناء على مقترحاتكم السابقة تلخصه عبارة واحدة: إما إطلاق الحرية لمؤسسات المجال العام لمزاولة نشاطها بروح الحرية التى يمنحها لها الدستور، وإما نقفز إلى عالم المجهول الذى قد يضطر فيه بعض المواطنين إلى الاقتداء بمثل النوبيين وعلى نطاق أوسع، أو يجد االمتطرفون أنصارا جددا يحملون معهم السلاح فى مواجهة الحكومة والمجتمع.
نقلا عن الشروق