معركة الموصل: لعبة إيران الكبرى في الشرق الأوسط

زير الخارجية الإيراني «جواد ظريف» ونظيره الأميركي «جون كيري»

الموصل، ثاني أكبر المدن العراقية، (كانت قد سقطت بيد تنظيم الدولة في يونيو/حزيران 2014)، باتت هذه الأيام في طريقها للتحرر من قبضة التنظيم، فثمة انتصارات حقيقية تتحقق على الأرض، الأمر الذي من الممكن أن يستغرق أسابيع أو شهورًا، وينذر بمستنقع من الدماء.

 

بالإضافة لتحديات السيطرة على المدينة، فإن الكم الهائل من الأطراف الفاعلة والمشاركة في دراما الموصل قد يؤدي إلى تداعيات خطيرة حال طرد داعش من المدينة. فالولايات المتحدة تدعم تحالفًا مؤلفًا من قوات الجيش العراقي والميليشيات القبلية السنية. قوات البيشمركة الكردية والميليشيات الشيعية مدعومة أيضًا، لكن عملهم ينحصر في تحرير القرى والبلدات الواقعة خارج الموصل.

وتتلخص الخطة العسكرية في إنهاء سيطرة داعش على المناطق الواقعة حول الموصل، ثم التقدم باتجاه المدينة من عدة محاور وترك ممر مفتوح خارج المدينة للسماح بتراجع داعش إلى سوريا.

تركيا، التي تمتلك فعليًا قوات موجودة شمال العراق لقتال حزب العمال الكردستاني (بي كيه كيه)، فضلا عن رعايتها لوكلائها من العراقيين السنة، فشلت في إيجاد موضع قدم لها في المعركة. على الرغم من ذلك، قامت تركيا بحشد قواتها على طول الحدود التركية العراقية، وهددت بغزو واسع النطاق داخل الموصل.

باختصار، كل لاعب رئيسي لديه مصالح مختلفة في عملية الموصل، يرغب في الدفع بهذه المصالح، بينما يحاول منع خصومه من فعل الشيء نفسه. ومن بين القوى الخارجية، إيران، إحدى أكثر القوى إثارة للاهتمام.

فإيران، التي لطالما كانت خصمًا للولايات المتحدة داخل العراق، هدفها الحالي هو مساعدة الحكومة العراقية على طرد داعش من الموصل والمناطق المحيطة؛ لذا نجدها تتحالف ولو بشكل مؤقت مع واشنطن.

على الرغم من ذلك، وفي ظل الفوضى الحالية في منطقة الشرق الأوسط، فإن تحقيق هذا الهدف البسيط سيجعل إيران أمام مجموعة من التحديات، ذكرها الكاتب والمحلل أفشون أوستوفر، المتخصص بتحليالات الشرق الأوسط، في تقريره الذي نُشر في مجلة «فورين أفيرز» في الرابع من نوفمبر/تشرين الثاني.

لا أصدقاء جدد

يرى أفشون أن إيران – منذ سقوط العراق في 2003 – باتت قريبةً جدًا من جارتها (العراق)، فحلفاء طهران من العراقيين الشيعة، الذين لطالما تعرضوا للقمع في ظل حكم الرئيس الراحل صدام حسين، يهيمنون حاليًا على الحياة السياسية في البلاد.

بالنسبة لإيران التي تفتقر لأصدقاء في المنطقة، فإن تحول العراق من جار معادٍ لحليف «سياسي ومذهبي» كان هدية، وأصبحت حماية الدولة العراقية إحدى الاهتمامات الأمنية الأساسية لطهران.

وتتركز السيطرة الإيرانية داخل العراق في دعم طهران للميليشيات الشيعية وقادتها السياسيين الأقوياء. لقد قضى الحرس الثوري الإيراني أكثر من عِقدٍ من الزمن في تدريب وتمويل وتنظيم عملاء إيران في العراق. واليوم، تنشط الميليشيات العراقية تحت القيادة الجزئية للجنرال قاسم سليماني «قائد فيلق القدس».

الميليشيات الشيعية التي تلقت التدريب من قبل فيلق القدس تقف اليوم بقوة خلف الرئيس السوري بشار الأسد، ودورها مركزي في الحرب على داعش العراق، حيث حظيت بسمعة لنزعتها الطائفية!

هذه الميليشيات باتت نعمة ولعنة بالنسبة لإيران، فمع التمدد الداعشي عام 2014 على الكثير من الأراضي العراقية، ساعد الحرس الثوري الإيراني في تشكيل قوات الحشد الشعبي، لتجمع تحت مظلتها الميليشيات الشيعية الرئيسية داخل العراق.

قوات الحشد الشعبي، والتي أقرتها الحكومة العراقية، تمنح القوات الموالية لإيران المزيد من الشرعية وحرية أكبر في العمل ودورًا رئيسيًا في الحرب ضد داعش. ومن ثمّ اكتسبت إيران والحرس الثوري نفوذًا أكبر في المشهد السياسي والأمني في العراق.

وعلى الرغم من الدور المركزي الذي لعبته قوات الحشد الشعبي في الحرب ضد داعش، فإن انتهاكاتها المتكررة بحق المدنيين السُنة لازمت سمعتها. وبالتالي، تم تهميش قوات الحشد الشعبي من الهدف الرئيسي لحملة الموصل، على خلفية إبداء واشنطن وأنقرة ودول أخرى مخاوفها من انتقام مقاتلي الحشد من المدنيين السنة بالموصل.

ولأن معظم الميليشيات عملاء للحرس الثوري الإيراني، فسيتم إلقاء اللوم على إيران في أي مشكلات ستقوم بها تلك الميليشيات في العملات المقبلة، ولهذا يظن أفشون ازدواجية الأثر المترتب على تحركات الميليشيا.

الانتهاكات الميلشيوية تجعل إيران تبدو بمظهر سيء ويربطها بنوع من الطائفية، ترفضها السلطات الإيرانية، لا سيما المرشد الأعلى آية الله خامنئي، الذي يؤكد ظاهريًا على الوحدة الإسلامية عن الوحدة الشيعية. (لكن ذلك ليس كافيًا لرفض تلك الميليشيات). ترغب إيران أيضا في أن تحتفظ بحليفتها الحكومة العراقية، فالعراق ليست جارة فحسب، هي واحدة من دولتين صديقتين لطهران في العالم العربي، إلى جانب سوريا التي يحكمها الأسد.

تتشارك بغداد وطهران علاقات اقتصادية ومخاوف أمنية تتعلق بالمملكة العربية السعودية و«التطرف» السني بشكل أوسع، لكن علاقاتهما تأثرت بالتقارب العراقي مع الولايات المتحدة، التي تمد العراق بمساعدات لا يمكن لإيران مضاهاتها. فعلى سبيل المثال على الصعيد العسكري، ساعد سلاح الجو الأمريكي والدعم المقدم من القوات البرية العراق على تحقيق مكاسب كبرى ضد داعش. ذلك الأمر جعل إيران وعملائها من الميليشيات تشعر بعدم الارتياح إزاء التدخل الأمريكي في الحرب، حيث إن الضغوط الأمريكية أجبرت بغداد على تهميش الميليشيات في العمليات الرئيسية لتعيد تقديم القوات الأمريكية والمعدات العسكرية للعراق.

هل تقلب تركيا الطاولة؟

يرى أفشون أن المصالح الإيرانية داخل العراق غير واضحة؛ تحتاج لأن تحقق الحكومة في بغداد والميليشيات الشيعية النجاح بطريقتهم الخاصة. يجب أن تستمر الميليشيات في توسيع نفوذها داخليا في القطاع الأمني للعراق. وكلما زادت السيطرة الفعالة للميليشيات على الأراضي مثل القواعد العسكرية والطرق الرئيسية ونقاط التفتيش ومعابر الحدود والمدن والقرى الرئيسية، سيكون أسهل على الحرس الثوري الإيراني القيام بتسيير أعماله داخل العراق.

على الرغم من ذلك، تحتاج إيران من الحكومة العراقية فرض سلطتها داخل الموصل، فتبدو هذه السلطة شرعية على السكان السُنة بالمنطقة. ولتحقيق ذلك، ينبغي تجنب الانتهاكات الطائفية. وحتى الآن أصبحت بغداد أكثر قدرة على إبقاء الميليشيات الموالية لإيران على هامش الحملة العسكرية بالموصل.

التدخل المحتمل لتركيا يزيد الأمور تعقيدًا. على الرغم من أن إيران تحظى بعلاقات أفضل مع تركيا عن السعودية، فإن الأخيرتين أعداء لطهران داخل سوريا وربما الآن داخل العراق، حيث يوجد مستشارون عسكريون أتراك فضلًا عن أنها تقوم بتدريب وكلاء لها هناك. وعلى الرغم من اعتراضات بغداد وطهران، فإن أنقرة أكدت مؤخرًا على حقها في المشاركة في تحرير الموصل حيث قامت بنشر قوة كبيرة على طول الحدود التركية العراقية مهددة بالتقدم صوب الموصل.

فتركيا تنظر إلى شمال العراق كجزء من النطاق الطبيعي لنفوذها والرئيس التركي رجب طيب أردوغان تحدث عن مزاعم بأن الموصل كانت جزءا من تركيا وكانت ولاية عثمانية. مشاركة تركيا في تحرير الموصل ستعزز تلك المزاعم وتضمن وجودًا عسكريًا أطول أمدًا شمال العراق. وبغض النظر عن نهاية اللعبة، فتوسيع الوجود التركي في العراق يُنظر إليه على أنه تهديد مباشر للمصالح الإيرانية وتعتبره الحكومة العراقية غزوًا غير قانوني.

بالإشارة إلى تهديدات تركيا وحشد القوات، صرح رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي قائلا: «لا نريد حربًا مع تركيا ولا نريد مواجهة مع تركيا، لكن إذا حدثت المواجهة، فإننا مستعدون لها، وسنعتبر تركيا عدوًا وسنتعامل معها على أنها عدو».

قد تكون مدينة تلعفر العراقية (40 ميلًا غرب الموصل) نقطة لاشتعال التوترات الإيرانية التركية. إن الميليشيات الشيعية المدعومة من سلاح الجو العراقي قد سُمح لها بتولي قيادة جهود استعادة المدينة من تنظيم داعش، وهو الشيء الذي لم يرُق لأردوغان الذي صرح مؤخرًا: «إن تلعفر قضية حساسة للغاية بالنسبة لنا، ولا نعتبر تدخل الميليشيات الشيعية في تلعفر وسنجار أمرا إيجابيا». محذرًا الحشد الشعبي من إرهاب المنطقة.

يمتزج داخل تلعفر السنة والشيعة لكنها مؤلفة بشكل أكبر من التركمان، غالبية الشيعة فروا بعد استيلاء داعش على المدينة والكثير، من بينهم الأتراك، يخشون من احتمالية قيام قوات الحشد الشعبي بالانتقام من السكان السنة. في غضون ذلك، ردت قوات الحشد الشعبي على التهديد التركي المحتمل بالتدخل في تلعفر بالقول إن أي قوات تركية سنعتبرها عدوة مع تحذير المتحدث باسم ميليشيا عصائب أهل الحق الموالية لإيران «نمتلك فعليا خططا لمواجهة أي تدخل من جانب القوات التركية».

يمكن أن يشكل الأكراد العراقيون مشكلة مماثلة. إيران والحرس الثوري يحظيان بعلاقات عمل جيدة مع زعيم إقليم كردستان العراق مسعود بارزاني وقوات البيشمركة الموالية له، لكن عملاء إيران الشيعة سبق وأن اشتبكوا مع البيمشركة عدة مرات من قبل. تلك التوترات ستظهر في الخلفية إبان معركة الموصل وفي أعقابها.

لكن الموصل هي الهدية الأكبر حتى الآن في حرب العراق ضد داعش وجميع الأطراف يريدون الاستفادة منها. والميليشيات الشيعية بدورها حذرت فعليًا الأكراد والأتراك من دخول الموصل، لكن من غير المرجح أن أيًا منهما سيستمع لتلك التحذيرات. إن قادة البيشمركة صرحوا بأنهم لن يدخلوا المدينة لكن مع وجود العديد من القوى المتنافسة تتقدم نحو المنطقة العامة نفسها، فإن احتمالية حدوث حالات سوء فهم عنيفة ستكون عالية.

ولتجنب المزيد من التصعيد، تحتاج إيران لتجنب وقوع صدامات عنيفة بين مصالح الأتراك والأكراد والشيعة داخل الموصل. لذلك، يذهب تفضيل إيران إلى الحكومة العراقية فيما يتعلق بالسيطرة على المدينة، لكن من المرجح أن تبقى التوترات حول مستوى مشاركة الميليشيات بينما تستمر المعركة وفي أي فراغ أمني لفترة ما بعد داعش. على الأقل في البداية سيتم التنازل عن السيطرة المباشرة على المدينة للقوات الحكومية العراقية، بينما يتم الاحتفاظ بدور للميليشيات في المناطق المحيطة بها، وهما أمران سيمكنان إيران من الاحتفاظ بموطئ قدم لها داخل مسرح الموصل لتضغط بمصالحها عندما تحتاج إلى ذلك. لكن احتلال الموصل من قبل أية قوة خارجية، سواء كانت كردية أو تركية، سيكون بمثابة لعنة على الحرس الثوري الإيراني ومن المرجح أن يشهد مقاومة صريحة من قبل الميليشيات.

سليماني يزيح روحاني جانبًا

بعيدًا عن كل هذه الحسابات نجد توترات في صميم العلاقات الإيرانية العراقية. حكومة الرئيس الإيراني حسن روحاني مسئولة نظريا عن السياسة الإيرانية في العراق. على الرغم من ذلك، فإن نفوذ روحاني الفعلي داخل العراق يأتي في المرتبة الثانية عن نفوذ سليماني والحرس الثوري الإيراني.

فسليماني ونظرًا لوضعه الموقر بين الميليشيات الشيعية، يُعد السياسي الإيراني الأكثر نفوذًا داخل العراق في يومنا هذا. ونظرًا لعلاقة سليماني الوثيقة مع خامنئي وتأييد الأخير لإستراتيجية الأول الإقليمية، فإن روحاني أمامه خيارات قليلة باستثناء أن يحذو حذو الحرس الثوري.

يصنع ذلك فارقًا فيما يتعلق بالسياسة التي تسعى إليها إيران فعليًا داخل العراق، ومقارنة بالحرس الثوري الإيراني فحكومة روحاني تكون أكثر ميًلا للتوصل لحلول وسط وتفضل أن يكون نفوذها من خلال علاقات شرعية مع القادة الأجانب والحكومات الأخرى. فروحاني يُعتبر أقل استثمارًا في الميليشيات الشيعية من الحرس الثوري الإيراني، وفي الوقت الذي ربما تخدم فيه تلك المجموعات مصالح إيران، فإنها تحصل على أوامرها من سليماني.

وإذا كان روحاني يرغب في مزيد من السيطرة على السياسة الإيرانية بالعراق، فمن الممكن أن يتطلب ذلك إيلاء أهمية أقل لعملاء إيران من الميليشيات في مقابل مشاركة أكثر أهمية على صعيد الدولة. ومن الممكن أن يصنع ذلك علاقات أكثر تقاربًا ووثوقًا بين القوات شبه العسكرية بإيران والعراق ويجعل مسئولية طهران عن سلوكيات تلك الميليشيات أقل.

التناحر بين روحاني والحرس الثوري الإيراني ينبغي أن يُنظر إليه في سياق السياسة الداخلية الإيرانية. لقد هيمن الحرس الثوري الإيراني لفترات طويلة على تقرير السياسات الإيرانية في منطقة الشرق الأوسط، ولم تعد حكومة روحاني قادرة على منافسته على ذلك الصعيد، على الرغم من ذلك فإن روحاني دخل في صراع مع الحرس الثوري الإيراني حول عدد من القضايا الأخرى بداية من الاتفاق النووي وحتى توسيع نطاق التجارة مع الغرب. هذه الخلافات على النفوذ والفوارق الأيديولوجية الأكبر بين المتشددين و الإصلاحيين المعتدلين تؤجج الانقسام السياسي داخل إيران.

لقد حقق المعتدلون في إيران مكاسب ضخمة تحت قيادة روحاني لاسيما على مستوى التمثيل داخل البرلمان ومجلس الخبراء «الهيئة الدينية المنوط بها اختيار المرشد الأعلى المقبل». تلك المكاسب تهدد بشكل جوهري المتشددين داخل إيران (ومن بينهم الحرس الثوري)، والذي سيكونون حريصين على هزيمة روحاني في الانتخابات المقبلة يونيو/حزيران عام 2017. وربما تكون الأعمال العدائية للحرس الثوري الإيراني، ومن بينها المضايقات العدوانية لسفن البحرية الأمريكية في الخليج العربي والاعتقالات العديدة لحاملي الجنسية المزدوجة، ربما تكون جزءا من حملة لتقويض جهود روحاني فيما يتعلق بالمشاركة الدولية مع الغرب.

تُعد معركة الموصل الخطوة الأكثر أهمية في حرب العراق ضد داعش حتى الآن، فجميع اللاعبين الرئيسيين في المنطقة يريدون تحرير المدينة، لكن مصالحهم المتضاربة ستجعل أي سيناريو في مرحلة ما بعد داعش محفوفا بالمخاطر.

لقد نجحت إيران حتى الآن في موازنة مصالحها بين الحكومة في بغداد وعملائها الشيعة. لكن تقاطع المصالح التركية والكردية والشيعية داخل الموصل والمناطق المحيطة بها جنبا إلى جنب مع التناحر السياسي داخليًا، جميعها أشياء ربما تجعل من الصعب الإبقاء على تلك الموازنة.

 

نقلا عن اضاءات

مقالات متعلقة