شارع الشهداء .. القصة الكاملة

شارع الشهداء

 

"شارع الشهداء لو سمحت" نداء يومي يتردد على مسامع سائقي الميكروباص، في المنطقة الواقعة بين ميداني محطة الرمل والجندي المجهول بالمنشية، مئات من السكندريين يمرون يوميا على هذه المنطقة، وقد تكون أنت منهم دون أن تعلم السبب الحقيقي وراء إطلاق اسم"الشهداء" على ذلك الشارع، وقد لا تتخيل أن للأمر أصل تاريخي وأن الأرض التي تطأها قدمك يوميا سالت عليها دماء المناضلين ضد الاستعمار الإنجليزي.

 

 

 

بداية القصة

 

في 5 مارس 2016 أقيمت احتفالية في مكتبة الإسكندرية تحت اسم"مذبحة الإسكندرية" حضرها عدد من السياسيين والمهتمين بالشأن العمالي، بينهم الراحل"فتح الله محروس"أحد أبرز القيادات العمالية، عبد الرحمن الجوهري المحامي، معتز الشناوي المسئول الإعلامي لحزب التحالف الشعبي الاشتراكي وغيرهم، فيما يجلس على المنصة 4 هم الدكتور حمزة البسيوني، وإلى جانبه الدكتور محمد رفيق خليل نقيب أطباء الإسكندرية، والدكتور علي الشخيبي، وأحمد محمد مصطفى.  

بدأ كل من الدكتور علي الشخيبي والدكتور محمد رفيق خليل بشرح أسباب الاحتفالية والتي ترجع أحداثها لعام 1946 وقت الاحتلال الإنجليزي على مصر، وأن منطقة محطة الرمل شهدت في يوم 4 مارس من ذلك العام حادثة تاريخية أغفلها التاريخ ولم يتم تأريخها بالشكل الذي يليق بها. وأوضح الشخيبي أنه بذل الكثير من الجهود للتوصل إلى المشاركين في هذا اليوم أو أسماء الشهداء والمصابين إلا أن ذلك لم يكن متاحا، وأنه توصل للدكتور حمزة البسيوني وكان أحد الطلاب المشاركين في هذا اليوم، وأحمد محمد مصطفى وكان أحد العمال المشاركين أيضا.  

وفي اليوم التالي للاحتفالية أعلن المنظمون عن مسيرة رمزية إلى حديقة سعد زغلول وغرس 28 شجرة كنصب تذكاري لشهداء 4 مارس 1946 بديلا عن النصب الذي تم إزالته.  

 

النصب التذكاري لشهداء 4 مارس 1946

 

حاولنا التواصل مع أبطال القصة لمعرفة الأصل التاريخي والأحداث الكاملة للواقعة، وبالفعل التقينا بـ 3 من أبطال يوم الاحتفالية هم الدكتور علي الشخيبي دكتور صيدلي، والذي يروي لنا كيفية توصله للحادث، مرجعا ذلك إلى فترة الستينيات حيث كان طالبا في كلية الصيدلة جامعة الإسكندرية، وأثناء مروره اليومي بشارع الغرفة التجارية في منطقة محطة الرمل كان يشاهد نصب تذكاري يحمل اسم"شهداء 4 مارس 1946"، وعقب ذلك تم إزالة النصب لمد خط الترام إلى المنشية وبحري ولم يعد النصب مرة أخرى.  

عقب إزالة النصب التذكاري بدأ الشخيبي مرحلة البحث عن يوم 4 مارس 1946 وماحدث فيه، وأثناء بحثه واجه صعوبة شديدة في الحصول على مصادر تؤرخ لهذا اليوم، رغم أنه يعد من أهم الحوادث التي وقعت في الأربعينيات وكان له تأثير كبير في تاريخ مصر -حسب قوله- إلى أن وقعت في يده قصة كتبها يوسف إدريس بعنوان "قصة حب"، والتي تضمنت وقائع ذلك اليوم، حي كتبها يوسف إدريس كاملة نقلا عن أحد أبطالها وهو الدكتور "حمزة البسيوني".  

 

ووصف الشخيبي ما كان من أبطال هذا اليوم بالتضحية الأسطورية، ورغم ذلك استمر إهمال الحدث على مر العصور طوال 70 عاما دون أن يذكر، حتى أنه واجه صعوبة بالغة في إيجاد أسماء شهداء ذلك اليوم وعددهم 28، أو المصابين وعددهم 345، حتى تمكن من الوصول إلى الدكتور حمزة البسيوني.

 

في عام 1936 عقدت معاهدة بين مصر وبريطانيا للجلاء التام عن مصر، على أن تبقى قاعدة عسكرية واحدة لبريطانيا في "فايد" بمنطقة قناة السويس، يقول الدكتور محمد رفيق خليل نقيب أطباء الإسكندرية، إن الاستقلال استمر لمدة 3 سنوات فقط وعقب قيام الحرب العالمية في 1939،  وكانت مصر مجال للحرب في هذه الفترة، ونشرت بريطانيا القوات في مصر، وكان من المفترض أن تنسحب القوات للقاعدة الموجودة في"فايد" حتى عام 1956 حسب اتفاقية 1936، إلا أن الاحتلال استمر في نشر قواته داخل مصر، وهو ما نتج عنه قيام حركات وطنية لمواجهته.  

عام 1946 تأسست اللجنة الوطنية للعمال والطلبة والتي مثلت الصراع الحاد بين الجماهير والسلطة، ورفعت هذه اللجنة شعار الاستقلال وكانت تؤمن بأن المباحثات التي تتم بين السلطة والانجليز ليس لها جدوى، وبدأت تحدد أيام للاحتجاجات والمظاهرات ونجحت في طريقها، حتى يوم 21 فبراير 1946 كانت أحد فعاليات اللجنة التي دعت للاحتجاج في كافة المحافظات وتجمع المواطنون في ميدان الإسماعيلية وقتها "التحرير حاليا"، ووقعت في ذلك اليوم حادثة "كوبري عباس" والتي راح ضحيتها الكثير من المواطنين برصاص قوات الاحتلال.

 

مذبحة الإسكندرية "بداية الكفاح المسلح"

قررت اللجنة الوطنية إعلان يوم 4 مارس يوما للحداد على شهداء 21 فبراير والثورة ضد الاستعمار، على أن تشارك فيه جميع محافظات مصر، يقول الدكتور على الشخيبي إن اليوم شهد نجاحا كبيرا حيث أوقفت الصحف إصداراتها، وتوقفت المرافق العامة والأعمال التجارية وشارك عدد كبير جدا من المواطنين، ومر اليوم بسلام في كل الجمهورية تقريبا عدا الإسكندرية التي كان لها رأيا آخر.  

يروي لنا الدكتور حمزة البسيوني 92 عام، أحد أبطال مذبحة الإسكندرية، والذي وفد إلى الإسكندرية من قرية نوس الغيط مركز أجا الدقهلية، لدراسة الطب في جامعة الإسكندرية في عام 1942، فوصف هذه الفترة بأنها كانت أيام نضال وطني وحراك شعبي، والتي شهدت تكوين اللجنة الوطنية للطلبة والعمال.  

خرجت المظاهرات من الاتجاهات المختلفة في المحافظة، وكان الدكتورة حمزة يقطن في منطقة الحضرة، حيث مرت المظاهرة بأحد شركات الغزل والنسيج متوجهة إلى ميدان محطة الرمل وهو المكان المعهود لتنظيم المظاهرات.  

 

تحركت المظاهرة بقيادة عدد من الطلاب الثوريين، ومرت في منطة محطة الرمل بـ "كشك بريطاني" ولم يلحظه أحد، استمرت المسيرة حتى نهاية شارع الغرفة التجارية، حتى وصلت إلى شارع "أفيروف" وفي أحد العقارات بدأت الاشتباكات بين المتظاهرين والقوات البريطانية الموجودة في العقار.

 

 

يشير الدكتور محمد رفيق خليل إلى أن تجمع المشاركين في المظاهرة بدأ تحديدا أمام العقار رقم 5 في شارع أفيروف وهو العقار الذي يقع فيه محل عمله، موضحا أن تجمع العمال والطلبة بدأ في أفيروف، ثم يتوجهوا إلى شارع سعيد باشا "الغرفة التجارية حاليا" وصولا إلى محطة الرمل.

 

 

بعد الاشتباك الذي وقع في شارع أفيروف مع القوات البريطانية عادت المظاهرة إلى منطقة محطة الرمل في حالة مختلفة، وهنا ظهر إلى الأعين "الكشك البريطاني" فقررت الجماهير اقتحامه، يقول الدكتور حمزة أنه كان "كشك" أسمنتي كبير له باب وشرفتين يطلون على ميدان سعد زغلول، وشرفة أخرى يطل على الغرفة التجارية ويصعد إلى بدرجات سلم صغيرة، فتسلق وعدد من زملائه السلم لكسر الشرفة ومعرفة ما يوجد داخل الكشك.

 

 

وأثناء ذلك تمكنت مجموعة أخرى من فتح الباب المقابل لميدان سعد زغلول وسمع حمزة وزملائه أصوات الجماهير يرددون"الباب اتفتح"، فتوجهوا إلى الباب وكان ضمن المجموعة التي دخلت "الكشك" والذي يتكون من غرفة داخل غرفة ووصل إلى آذانهم فجأة أصوات"مترليوزات" ولم يفهموا وقتها ما يحدث فيقول"شعرت أن هنا خطر، هنا موت، هنا رصاص" وسقط كثير من الشهداء والجرحى.

 

خرج البسيوني وزملائه إلى الميدان، وشهدوا عساكر الاحتلال يطلقون النيران من داخل "الكشك"، وهو ما جعل الجماهير يصرون على إحراقه والقبض على من فيه، فكانوا يخلعون ملابسهم ويضعوها في "البنزين" ويشعلون فيها النيران ثم يقذفون بها "الكشك"، وتوجه البعض إلى محل"تريانون" وأحرقوا عدد من المقاعد"الكراسي" وألقوا بها "الكشك"، وفي هذه الأثناء خرج الجنود الإنجليز وكان عددهم 4، تم قتل 2 منهم على يد الجماهير، وتسلمت القوات المختصة بحماية الميدان في ذلك الوقت.

 

 

ويذكر واقعة طريفة، فأثناء ذلك الصراع ظهر الفنان"أنور وجدي" في الفندق الذي يقع فوق "تريانون"، وكان ملتاعا يتحرك يمينا ويسارا وكان شعره يطير مع حركته، وهو ما وصفه البسيوني بأنه كان أفضل مشهد تمثيلي رآه وقتها رغم أنه لم يكن تمثيلا، وهو ما دفع الجماهير إلى الهتاف"هيييييه أنور وجدي"

 

 

في اليوم التالي ذهب إلى كليته فوجد في قسم الجلد عشرات الجثث بملابسها، في الوقت نفسه شهد خارج هذه الحجرة أحد الإنجليز مذبوحا من رقبته، مؤكدا أن عدد الشهداء أكثر من 28 ولا يمكن حصره.

 

رغم بداية المظاهرة السلمية إلى أنها مثلت نقطة تحول في تاريخ الكفاح المصري ضد الاستعمار، وحسب قول الدكتور على الشخيبي، منذ ذلك اليوم بدأ الشعب في اعتماد سياسة الكفاح المسلح ضد الإنجليز، ولم تجرؤ قوات العدو بعد ذلك على الظهور في المدن وتمركزت في القاعدة الموجودة في قناة السويس، واستمر الكفاح المسلح حتى أُجبرت الحكومة آنذاك على إلغاء معاهدة 1936.

 

شارع الشهداء

كان شارع "أفيروف" الواصل بين شارع سعيد باشا وشارع صفية زغلول هو أول نقاط الاشتباك بين القوات البريطانية والمتظاهرين، وشهد سقوط أول الشهداء،فيقول الدكتور حمزة البسيوني، عقب السير في شارع المسمى حاليا بالغرفة التجارية يقع على يسارك شارع أفيروف، والذي بدأ الاشتباك فيه، وسقط فيه أول الشهداء.

 

و يقول الدكتور محمد رفيق خليل، أنه في يوم 5 مارس 1946 وهو اليوم التالي للمذبحة، اجتمع مجلس بلدية الإسكندرية والذي كان يمثل كافة السكان بما فيهم أجانب مصريين، وقرروا تغيير اسم شارع "أفيروف" إلى شارع الشهداء.

 

يوسف إدريس والمذبحة..

في الخمسينيات اعتقل الدكتور حمزة البسيوني سياسيا ووضع في زنزانة واحدة مع الدكتور يوسف إدريس بسجن"أبو زعبل"، وتم فصلهم عن باقي السجناء ونقلوا سويا إلى "سجن مصر"، وأعلنوا الإضراب عن الطعام، فنقلوا إلى التأديب، وتعرض إدريس إلى الضرب القاسي حتى تراجعوا عن الإضراب بعدما لم يتمكنوا من إعلام أحد بإضرابهم.

 

 

وفي ذلك الوقت تم الإفراج عن يوسف إدريس، وعقب خروجه كتب "قصة حب" وكتب فيها قصة الدكتور حمزة البسيوني كما ذكرها له أثناء اعتقالهم سويا، وأضاف فيها تفاصيل واقعة 4 مارس، إلا أنه كتب التاريخ 6 مارس، وتم عمل فيلم عقب ذلك عن القصة باسم"لا وقت للحب"، مشيرا إلى أنه كان على صلة بيوسف إدريس حتى ذلك الوقت، وكان الفيلم من بطولة رشدي أباظة، الذي اعترض على اسم البطل متسائلا"إزاي جون بريميير يبقى اسمه حمزة؟".

 

 

رسالة لبريطانيا ومطلب من الحكومة المصرية

في فترة تطوير منطقة محطة الرمل ووقت إنشاء الخط الجديد من ترام البلد الرابط بين محطة الرمل والمنشية، تم إزالة النصب التذكاري الخاص بالمذبحة، فيقول الدكتور حمزة"جملوا الميدان بإزالة النصب للأسف"، ويؤكد الدكتور على الخشيبي أن إعادة النصب التذكاري هو حلم له ولزملائه، كي يعلم الشباب أن هناك من ناضل ورفض الاستعمار، وأن الشعب لم يكن مستسلما وأنه ضحى كثيرا، موضحا أن ميدان محطة الرمل به مساحات كثيرة يمكن أن يعاد بناء النصب بها.

وأوضح الدكتور محمد رفيق خليل أنهم أرسلوا طلب مهذب لبريطانيا يطالبون فيها بالاعتراف بوقوع المذبحة، خاصة وأنهم يملكون وثائق تاريخية تؤكد الأحداث، وتعيد لأبطال 4 مارس حقهم بتأريخ الحادث.

 

 

 

 

مقالات متعلقة