تتكشّف النيات الروسية والإيرانية أكثر فأكثر، كما يستشرس أي وحش كلما ولغ في دم فريسته. لم يعد سفاحو حلب يطالبون بالتمييز أو الفصل بين «المعتدلين» معارضي نظام بشار الأسد و «الإرهابيين». سيعتبرهم سيرغي لافروف إرهابيين جميعاً، طالما أنهم قرروا عدم مغادرة المدينة. هذه فتوى للقتل العشوائي التلقائي، كما في أي عملية إبادة.
«فيتو» على وقف لإطلاق النار، على هدنة، وعلى مرور غذاء للأطفال ودواء للجرحى المتروكين لمصيرهم. «فيتو» كهذا يعني نعم للإبادة، فالمطلوب إخلاء حلب واستباحتها، ولو لم يبقَ فيها سوى الركام.
كثيرون راهنوا أو توقّعوا أن تأتي لحظة تظهر فيها روسيا كدولة كبرى مسؤولة ومعنية بشيء آخر غير أن ترتكب غروزني ثانية. بل اعتقدوا أنها يمكن ألا تكون متماهية مع وحشية نظام الأسد، وأن لا تقبل بإخراج سوريين من مدينتهم لتتركها نهباً للميليشيات الإيرانية... روسيا هذه لم تكن يوماً، ولن تكون، ولعلها استدعت الولايات المتحدة للحاق بها في تأكيد أن النظام العالمي بات بلا أي قيم، ولا وجوب للمراهنة عليه، أو توقّع احترامه قوانين وضعها ويمعن في تمزيقها.
آخر ما يمكن أن يفكّر فيه فلاديمير بوتين وعلي خامنئي والأسد، أن تُختزل سورية في معاناة البشر الذين يجوّعونهم، في جثث الصغار والكبار على قارعة الطريق، وفي أنين المصابين والمكلومين في احتضارهم الطويل. لم يأتِ الروس الى سورية إلا من أجل هذه اللحظة، وليست في جعبتهم «أخلاقيات» بل أدوات قتل يريدون تجريبها. كل الجدالات التي افتعلوها حول الإرهابيين، كل الهدنات التي أقرّوها لخرقها، كل المفاوضات التي شجّعوا عليها وحضّوا على إفشالها، وكل تفاهماتهم واتفاقاتهم مع الأميركيين، لم تكن سوى مسلسل من الكذب والخداع، سوى استهلاك للوقت ومناورات لإحكام الحصارات والمجاعات. أخضعوا الأمم المتحدة واستخدموا مبعوثها لتجويف قراراتها وحرفها عن أي منطق قانوني أو إنساني. داوموا على مساومة الولايات المتحدة (وأوروبا) على صفقة لا ترغبان فيها: سوريا (أو نصفها) مقابل أوكرانيا (أو نصفها)، استوعبوا الثنائي باراك أوباما - جون كيري وانتزعوا منه اتفاقاً لـ «التعاون» بين الجيشين، لكن رفض البنتاغون كلّف حلب وأهلها جولة من أشد الصواريخ فتكاً وتدميراً، إضافة الى سفك دم الإغاثيين في قافلة المساعدات.
كان بين تفاهمات كيري - لافروف تأكيد لضرورة ضرب «الإرهابيين» غير «الداعشيين»، في حلب وامتداداتها وكذلك في إدلب. الحجة أنه يُفضَّل التخلّص منهم «الآن» («قبل الحل السياسي») تفادياً لإزعاجات سيسبّبونها لاحقاً. لكن، ماذا عن الأسد، وماذا عن الإيرانيين، الذين لم يكن خيارهم مجرد الإزعاج بل إحباط أي حلّ لأي حلّ. ثم، عن أي حل سياسي كان الوزيران يتحدّثان؟ لم يكن في بال الروس سوى «حلّهم»، بـ «المعارضة» التي هندسوها من بين «المعارضات» المتوافرة في جيوب النظام. أما الحلّ الذي تخيّل كثيرون أنه موضع نقاش فيمكن القول الآن أنه كان طبخة أوهام، وكان كيري صريحاً الى حد الوقاحة في أكثر من لقاء مع معارضين من «الائتلاف» أو من «هيئة التفاوض»، إذ كان مكلفاً بإفهامهم أن أميركا أوباما تقبل ما تعرضه روسيا بوتين: «الحلّ» يكون مع الأسد أو لا يكون، وأن الخيار بين قبول هذا الحل مع ضحايا ودمار أقلّ وإلا فبمذبحة ودمار أكثر. الواقع، أن الروس لم يكونوا يعرضون سوى الحل العسكري الذي ينفّذونه حالياً، ولم يكن الأميركيون مكترثين فعلاً.
وآخر ما يمكن أن يعني السوريين اليوم، هو أيٌّ من الروس والإيرانيين والأسد سينتصر في نهاية المطاف، وأيّ قطعة سيظفر بها هذا وذاك من الجثة السورية، فهؤلاء تضافروا جميعاً لجعل شعب سورية مجرد أرقام في لوائح اللاجئين والمحتاجين الى مساعدة، أو لوائح ابتزازات «شبّيحة» النظام. بل لا يعنيهم أن يكون الروس والإيرانيون دخلوا في تنافس مكشوف يتظاهر الأسد بأنه يتذاكى في اللعب على تناقضاته. كانت حكومة النظام تستورد القمح من أوكرانيا ولم ينتبه الروس إلا بعد إبرام آخر صفقة، قبل بضعة أسابيع، فاستدعوا رئيس الحكومة الى حميميم وأمروا بإلغائها فوراً، ولما اتصل برئيسه لإخباره والاستفسار عما يجب أن يفعله، جاءه الجواب: نفّذ ما طلبوه منك. وعندما بدأ التدخل الروسي، كانت موسكو بالغة الاقتناع بأنها ستتمكّن من استقطاب المنشقّين وإعادة ضمّهم الى الجيش السوري، ثم اكتشفت أنه أصبح جيش الأسد وأن ضبّاطه أنشأوا ميليشيات لإدارة إقطاعاتهم فعملوا على استقطاب بعض منها وأسسوا لها الفيلق الرابع الموالي لهم والعامل بإشرافهم، علماً أن أوضاع الفيالق الثلاثة الأساسية ليست على ما كانت عليه. وها هو الجيش أعلن لتوّه تأسيس فيلق خامس سمّاه «اقتحام»، ولعل الاسم يكفي للدلالة على أن هذا الفيلق لا يمتّ الى الجيش بل الى الإيرانيين لتجميع الميليشيات التي أنشأوها ودرّبوها.
لحظة حلب هي لحظة انزلاق سورية الى هاوية المساومات الدولية ومناورات المتدخّلين. وفيما تخفي موسكو أوراقها منتظرةً تنصيب دونالد ترامب لتفتح معه صفحة جديدة بعد التخلص من عقدة حلب والشروع في إنهاك إدلب، وجدت طهران أن الوقت حان للإفصاح عن توقّعاتها وترتيباتها. إذ لم يكن محمد علي جعفري، قائد «الحرس الثوري» الإيراني، مباشراً الى الحدّ الذي بلغه حين قال أن إيران هي مَن تقرّر «مصير سورية»، وأن الدول الكبرى «لا بدّ أن تتفاوض مع إيران لتحديد مصير دول المنطقة بما فيها سورية» (22/10/2016). وتبعه رئيس أركان القوات المسلّحة محمد حسين باقري، بإشارته (نشرت في 27/11/2016) الى إمكان إقامة «قواعد بحرية في اليمن أو سورية» لأن إيران «تحتاج الى قواعد بعيدة» ومن الممكن أن تكون لها «قواعد على جزر» أو «قواعد عائمة». بعد يومين، شنّ طيران «مجهول»، بالأحرى روسي، سلسلة غارات على مواقع في بلدتي نبّل والزهراء الشيعيّتَين اللتَين كانت المعارضة تحاصرهما في ريف حلب الشمالي واستعادتهما الميليشيات الإيرانية، بغطاء جوي روسي، في شباط (فبراير) الماضي. هذه المرّة استهدف الطيران الروسي معسكر تدريب يقوم الإيرانيون بتطويره وتوسيعه، وليس مستبعداً أن يكون الروس أرادوا تحذير إيران في شأن طموحاتها و»قواعدها» البحرية - حتى في سورية - التي يمكن أن تخرّب مناخ تقارب بوتين - ترامب قبل أي تفاهم بينهما.
دخلت إيران حسابات «ما بعد حلب» لتحدّد المكاسب التي تتوقّعها. كانت صوّرت هذه المعركة على أنها بين معسكرَين دوليين متيقنةً بأن معسكرها سينتصر وأن هذا يكفي لتحقق مرحلة أكثر تقدماً في نفوذها. الأرجح، أن روسيا لا تشاركها هذا التقويم، فبعد حلب بالنسبة إليها محكٌّ دولي خطير يرتّب على بوتين أعباء لا يكفي التحدّي والتهوّر لمعالجتها. إذ إنها مضطرّة، خلافاً لإيران، لأن تحسب حساباً لمصالحها الأخرى وللمجتمع الدولي في سياق إدارتها الوضع السوري، فما تريده في سورية كانت ولا تزال حاصلة عليه، ومهما بلغت رغبة ترامب في التعاون معها فإنه لن يحدّد خياراته قبل منتصف السنة المقبلة ولن يتقاسم الأعباء معها مجاناً، ثم إنه قد لا يكون معنياً بأي مصلحة في سورية أو قد يدعوها الى مساومة على الدور الإيراني نفسه. وفي ضوء الأرقام المخيفة التي أعلنتها الأمم المتحدة أخيراً عن الحصيلة الراهنة للحرب، يصبح تساؤل مفوّضية الخارجية الأوروبية محقاً ودقيقاً: «من حقّق نصراً في حلب، إذا كانت جائزته بلداً منقسماً ومسلحاً يضيق بالإرهابيين ومعزولاً عن الساحة الدولية»؟