بين أيدينا واحد من المقالات التاريخية النادرة، التي كتبها السياسي النازي «أرنو شيكنيدانز»، في إحدى الدوريات النازية التي تُسمى Der Schulungsbrief، وذلك في عدد إبريل / نيسان 1936، وهي واحدة من المجلات ذات الشعبية الكبيرة في الحقبة النازية، حيث تم تداول أكثر من مليون نسخة منها في عام 1936.
وقد أُعيد نشر هذا المقال مرة أخرى على موقع كلية «كالفين» الأمريكية، في القسم الخاص بوثائق الدعاية الألمانية، تحت عنوان «الصهيونية».
ربما تختلف هذه المقالة عن وجهة النظر السائدة حول رؤية النازية للصهيونية.
فنظرًا للكراهية التي كان يُبديها النازيون تجاه اليهود، ربما يجول بخاطرنا للوهلة الأولى أنهم كانوا يدعمون الصهيونية وإنشاء دولة يهودية، وبالتالي تشجيع اليهود على مغادرة ألمانيا.
في حقيقة الأمر، شجع الألمان على هجرة اليهود إلى فلسطين، ومنعوا الصحف الألمانية من نشر أي أخبار حول الصعوبات التي يواجهها اليهود هناك.
على الرغم من ذلك، فإن ذلك المقال يرفض تلك الفكرة، حيث يُنظر إلى الصهونية على أنها جزء من المخطط اليهودي الشامل للسيطرة على العالم
الصهيونية
في البداية يُركز الكاتب على كارل ماركس وأفكاره، فهو من ساعدهم على تجاوز المشاكل والصعوبات التي جاءت مع مرحلة التصنيع وتحويل الملكية، والتي أعقبت تطور السلطة الرابعة (الصحافة والإعلام)؛ ليقوموا بتزييف مطالبهم المبررة بطريقة تخدم مصالحهم. فمع تأكيده على الاستغلال المُستمِر المُستنِد إلى رؤيته المادية للتاريخ، خلق ماركس جبهة انتشرت في جميع الدول، وقام بتمييزها من خلال مبدأ «الأممية» والروح اليهودية.
ويؤكد شيكنيدانز أن نظرية ماركس أسهمت في تمزيق الأمم، وانهارت مقاومتها أمام القوى الخارجية، حيث كانت الأحزاب الداخلية تتصارع بشكل ضار مع بعضها البعض. عدد محدود هو من لاحظ أن نظريات كارل ماركس يهودية بطبيعتها. حيث كان يعتقد أن بإمكانه استغلال رؤيته المادية للتاريخ، والطبيعة الاستغلالية لليهود، وتطبيقها على بقية الشعوب.
ويذهب الكاتب في مقاله التاريخي إلى أن تنامي ثروات اليهود، إلى جانب تنامي النفوذ الذي منحتهم إياه تلك الثروة، أدى إلى تقليل التجانس اليهودي. حيث طوّر اليهود مفاهيم «الاندماج» و«التحررية» داخل عقيدتهم؛ لتصبح أكثر أريحية، وترفض في الوقت نفسه المفاهيم التي تسبب الانزعاج، لكن دون ترك الديانة اليهودية.
وقد انعكست نظريات كارل ماركس حتى على منظمة Poale Zion اليهودية (وتعني عمال صهيون، وهي حركة عمالية ماركسية تأسست في مختلف مدن بولندا وأوروبا والإمبراطورية الروسية في مطلع القرن الـ 20)، بين اليهود الفقراء الموجودين في الشرق والذين لم يحققوا أي شيء.
فلقد تمخضت الصهيونية – وفقاً لرؤية شيكنيدانز – عن التفكير في وضع اليهود ضمن الشعوب المستضيفة لهم وعن معرفة سلطتهم السياسية والمالية. لقد كانت الصهيونية محاولة للموازنة بين تلك الحقائق ومجابهة النزعات المتباينة روحيًا لدى اليهود.
ثم يقتبس الكاتب بعض مقولات مؤسس الصهيونية تيودور هيرتزل في مذكراته حيث يقول:
أينما توجد الصهيونية، لا يمكن لأي فرد إلغاء حقوق اليهود في المساواة أمام القانون بعد أن تم التسليم بها؛ ليس لأن ذلك سيكون مضادًا لروح عصرنا، ولكن أيضًا لأنه سيدفع جميع اليهود أغنياء وفقراء على السواء إلى صفوف الأحزاب المُخرِبة، فلم يعد هناك شيء فعال للإضرار بنا.
ويضيف هيرتزل: «لقد كانت مجوهراتنا في الماضي تُصادر، ولكن كيف يمكن الوصول إلى ممتلكاتنا المنقولة الآن؟ إن معاداة السامية تتعاظم يومًا بعد يوم وساعة بعد ساعة، وهي حَريَّة بأن تتعاظم حقًا؛ لأن أسباب نموها مستمرة في الوجود ولا يمكن إزالتها».
ويستكمل: «لا أرغب في الكتابة عن تاريخ اليهود، فهو أمر مألوف، لكن ينبغي أن أشير إلى شيء واحد: وهو أنه خلال ألفي عام من وجودنا في المهجر، لم تكن لدينا قيادة موحدة، وأعتقد أن تلك هي المصيبة الكبرى».
ولتجاوز تلك المصيبة، أنشأ هيرتزل ما يُعرف بـ «الصهيونية السياسية»، والتي تنص على إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين. لذا، فإن المراقبين غير اليهود والكتاب المهتمين بالصهيونية، الذين يعتبرونها ليست سوى محاولة للتجديد الوطني، بدلاً من أنها تتمثل في إنشاء قيادة يهودية موحدة وحكم لليهود في العالم، مخطئون.
ثم يحاول الكاتب تفسير الخلط بين الصهيونية السياسية وفلسطين، فقط من خلال النبوءات اليهودية التي تتأكد خلالها سيطرة اليهود على جميع المنافع في هذا العالم. ومع إدراكها أن الوقت قد حان وأن الجهود ستتوج بالاستيلاء على فلسطين، طورت الصهيونية الفكرة الحمقاء التي تُعرف باسم «أرض الميعاد» التي سيهاجر إليها اليهود تدريجيًا دون أي ضغوط خارجية.
في عقيدة الصهيونية السياسية، تحقق فلسطين دورًا لا غنى عنه بالنبوءة. فالصهيونية السياسية لم تقصد على الإطلاق أن تكون فلسطين مقصدًا لجميع اليهود في العالم، لكنها كانت تريد فقط أن تجعل منها مركزًا للسياسة اليهودية في العالم، وهذا الأمر ينبغي بطبيعة الحال أن تتم حمايته من قبل جالية يهودية قوية.
لقد أوردت صحيفة «يودشي روندشاو» الصهيونية أن أحدًا لم يقترح أن يهاجر جميع اليهود إلى فلسطين، كما أعلنها «ناحوم سوكولوف» الصحفي والكاتب اليهودي صراحة في عام 1921، أن اليهود يريدون العودة إلى فلسطين، وسيكون مركزهم داخلها، لكن ستعيش قطاعات كبيرة من اليهود في المهجر ما يحتم الاهتمام بهم وبكرامتهم وضمان حقوقهم القومية.
وقد رأى شيكنيدانز حينئذ أنه من وجهة النظر السياسية، فسيكون من مصلحة العالم أجمع وجميع الشعوب المستضيفة لليهود، هجرة اليهود المشتتين في جميع أنحاء العالم طوعًا إلى بعض الأراضي الصالحة للعيش.
وفي حال لم تكن الصهيونية السياسية مهتمة بمثل ذلك الحل للقضية اليهودية، فسيكون من مصلحة الشعوب المضيفة لليهود إرشادها لذلك التوجه الإيجابي، وستكون القضية الوحيدة حينها: هل فلسطين هي مكان التجمع المناسب لليهود؟
لكن فلسطين لا تستطيع استيعاب جميع اليهود في العالم، ناهيك عن تنامي المعارضة العربية لتسلل اليهود إلى هناك. فالعرب هم المالك الأوحد للأرض.
عندئذ، تساءل الكاتب: فأي أرض أخرى ستكون مناسبة لليهود؟
فأجاب؛ أنه في اللحظة التي لا تصبح فيها فلسطين هي هدف الهجرة اليهودية، ستنهار الصهيونية السياسية، حيث يُنظر إلى فلسطين كوسيلة لتحقيق النبوءة اليهودية، ودون ذلك يفقد المشروع ككل هدفه؛ ما يدفع اليهود لتنفيذ هجمات عنيفة، وعرقلة أي مشروع يهدف إلى وقف الهجرة اليهودية إلى هناك.