تفجير الكاتدرائية ينهي أسطورة حماية الدولة للأقباط !

أبو المعاطي السندوبي

مَن فجّر الكاتدرائية كان يعلم بالتأكيد عدم وجود البابا فيها.. بل عدم تواجده في مصر كلها؛ فقد كان يعرف أنَّ البابا في زيارة لليونان التي تبعد آلاف الكيلو مترات عن مقره البابوي في العباسية.

ولهذا كان يدرك أن صاحب "البيت" لن يصاب بمكروه، ولن يهرول لإنقاذ أبنائه، في آخر مكان كان يعتقد أنه بإمكانه حمايتهم فيه. والأهم من هذا وذاك، أنه لن يتمكن من الإدلاء بتصريحات غاضبة وانفعالية ضد من قاموا بالاعتداء البربري، وأيضاً ضد الدولة التي فشلت في حماية أهم حصن لأهلنا الأقباط .

 

ومن هذا المنطلق يتأكد أن المفجرين للكاتدرائية يفهمون جيدا في " السياسة" ، بل قادرون أيضًا على استثمارها لتحقيق مآربهم الدنيئة على أشلاء وجثث الضحايا الأبرياء من أهلنا الأقباط، والذين دفعوا هذه المرة ثمنًا باهظا ماديا ومعنويا في " عراك" دامٍ حول السلطة، يشتد يومًا بعد يوم خلف أبواب الغرف المغلقة .

 

فالعدوان تَمَّ هذه المرة داخل بيتهم "الأم" وليس خارجه، مما أوصلهم إلى قناعة أنّه لم يعد لهم أمان في أي مكان في مصر، رغم وعود السيسي المتكررة لهم بحمايتهم في كل بقاع مصر، فكيف إذن يصدقونه الآن بعد أن وصل الأعداء إلى داخل مقر رمزهم الديني الأعلى شأنًا ومقامًا .

 

ولهذا كان من الطبيعي أن يطيح هذا التفجير بالعهد القديم بين الدولة والكنيسة، ليبدأ عهدًا جديدًا في تحديد علاقة الدولة بالأقباط، فالمفجرون للكاتدرائية عرّوا الدولة تمامًا لإظهار عجزها عن حماية الأقباط داخل أعزّ ما لديهم ورمزهم التاريخي، فكيف إذن ستتمكن الدولة من حمايتهم وتأمين كنائسهم الصغيرة في النجوع والقرى والمدن المنتشرة في ربوع مصر. فمضمون الرسالة التي أراد مفجرو الكاتدرائية إيصالها، هي باختصار أن عصر حماية الدولة للأقباط قد انتهى.. وبالتالي فلم يعد لدى الأقباط دولة تحميهم !

 

وبالطبع سيدفع هذا الفراغ الناتج عن نهاية عصر حماية الدولة البابا وقيادات الكنيسة، إلى محاولة ملئه في أسرع وقت. فالمعضلة الرئيسية التي تواجه البابا تواضروس الآن تتمثل في البحث عن إجابة على سؤال يشغل بال كل أقباط مصر، وهو من إذن يحمينا الآن بعد أن عجزت الدولة عن حمايتنا؟

ولاشك أن الإجابة عن هذا السؤال لابدَّ أن تكون ناجعة وسريعة في نفس الوقت، فالتأخير في ملء الفراغ الحادث حاليًا والمتمثل في فشل حماية الدولة سيهز بشدة من مكانة البابا تواضروس أمام الأقباط باعتباره ممثلهم الذين أودعوه ثقتهم ومحبتهم، كما أنَّ التأخير سيؤدي إلى صدوح أصوات عديدة داخل الكنيسة، تحاول ملء الفراغ بالهجوم على الدولة الفاشلة التي عجزت عن توفير الحماية مما سيرفع من "نعرة" التسييس ، والتي قد تتطور الي مواجهة عدائية علنية مع السيسي ونظامه . وبالفعل بدأت تظهر بشائر ذلك في هتافات المتظاهرين الأقباط أمام الكاتدرائية بإقالة وزير الداخلية ومنعه من زيارة الكاتدرائية بعد تفجيرها .

 

وهذا التسييس "لشعب" الكنيسة هو أخطر ما يخشاه البابا تواضروس، فمن ناحية سيؤدي ذلك إلى تهميش دوره "كقائد أوحد" للأقباط لا منافس له في تمثيلهم، وفي نفس الوقت فإنّ سكوته عن نقد وتوجيه اللوم للدولة الفاشلة في حماية الأقباط، سيجعله في نظر قطاعات هامة، وخاصة في نظر الشباب القبطي بابًا متخاذلا في الدفاع عن رعيته. وسيترتب على هذا بداية ظهور براعم المعارضة السياسية للسيسي ونظامه، مما سيفسد على البابا تواضروس "مساوماته" السياسية مع السيسي في تحسين تمثيل الأقباط سياسيًا، سواء في البرلمان أو غيره من مؤسسات الدولة.

وهذا ما نجح فيه حتى الآن، مقابل إسكاته لمعارضي السيسي داخل صفوف الأقباط، بل ومنع حتى المطالبين بحقوق الشهداء الأقباط في انفجار كنيسة القديسين بالإسكندرية عام 2010 وضحايا مذبحة ماسبيرو في عام 2011 من اتخاذ الكنيسة منبرًا لهم للمطالبة بمحاكمة من قتلوا شهدائهم، وذلك حتى لا يغضب السيسي منه .

 

وإزاء هذا الصراع المتوقع داخل صفوف "شعب الكنيسة" حول الدولة والموقف منها، والذى ظهر جليًا في إقامة جنازتين اليوم لشهداء الكاتدرائية احدهما شعبية لأهلنا الأقباط، واخرى رسمية يشارك فيها البابا ورجاله مع السيسي ورجاله فقط بعد رفض الأقباط مشاركتهم معهم، لم يبق أمام البابا من خيار غير ان يعدل من مواقفه السياسية تجاه السيسي.. فالمتوقع خلال الفترة القادمة سيادة حالة من "السيولة" السياسية داخل الكنيسة في علاقاتها مع الدولة، وعلى كافة المستويات، بعد أن أطاحت تفجيرات الكاتدرائية بأسطورة حماية الدولة للأقباط في الهواء، وذلك انتظارًا للوصول لحالة جديدة من "الثبات" السياسي للعلاقة مع الدولة، على أسس جديدة، لن تكون من بينها بالطبع، استمرار دعم الكنيسة سياسيًا للسلطة، مقابل حمايتها للأقباط، فهذا زمن ولى، ولن يعود مرة أخرى، ولهذا يبدو أن حل المواطنة، هو الخيار الوحيد المتاح الآن أمام الأقباط، فحمايتهم حق أصيل ، كفله الدستور لهم كمواطنين وكجماعة، بغض النظر عن انتمائهم الديني، خاصة بعد أن تأكد فشل الكنيسة في توفير هذه الحماية، عبر الاتفاق سرًا مع الدولة، والتي هي في الواقع شبه دولة.. باعتراف رئيسها السيسي نفسه!

مقالات متعلقة