على مدى السنوات الست الفائتة، تطور الموقف التركي من الثورة/الأزمة السورية، وتبدل مرارًا تبعًا لتفاعل ثلاثة عوامل:
الأول: التطورات الميدانية وميزان القوى في المشهد السوري.
الثاني: تطور الموقف الدولي والإقليمي من الأزمة السورية.
الثالث: ديناميات الوضع الداخلي التركي، سياسيًا واقتصاديًا.
وبناء على هذه المحددات الثلاثة، فقد تنقل سقف الموقف التركي من مرحلة دعوة النظام السوري لإجراء إصلاحات حقيقية في أشهر الثورة الأولى، إلى مرحلة دعم المعارضة واحتضانها والمطالبة بإسقاطه بعد ترسيخ التعامل الأمني وانقطاع العلاقات الدبلوماسية في 2012، إلى دعم الحل السياسي ومسار جنيف مع اتفاق فيينا في 2015، إلى القبول ببقاء الأسد خلال الفترة الانتقالية مع الانقلاب الفاشل في تركيا، وصولًا أخيرًا إلى التدخل العسكري المباشر على الأرض السورية مع عملية درع الفرات منذ 24 آب/أغسطس الفائت.
عملية درع الفرات هي الأهم والأخطر في مقاربة الجار التركي للأزمة السورية، ليس فقط لأنها المرحلة الحالية، أو لأنها تشمل تدخلًا عسكريًا بالاختلاف الجذري عن مجمل الموقف التركي طوال سنوات؛ لكن أيضًا لأنها وضعت تركيا على الخارطة الجغرافية والسياسية لسوريا، ووجهًا لوجه مع عدد كبير من الفواعل المحلية والإقليمية والدولية المتصارعة على رقعة الشطرنج السورية وعلى طاولة التفاوض لرسم مستقبل سوريا، ولأنها -كما يبدو- حملت متغيرًا مهمًا في سقف الموقف ومستوى القرار التركي في سوريا.
مؤخرًا، أضيف لسياقات درع الفرات، تطورات مهمة ومتزامنة تتعلق بمعركة تحرير الموصل وعملية تحرير الرقة تحت عنوان «غضب الفرات». بينما تمر تركيا في فترة حرجة تزامنت فيها التحديات والأزمات كما لم تفعل يومًا، وجعلت حساباتها في سوريا دقيقة جدًا، بدءًا من تداعيات المحاولة الانقلابية وإعلان حالة الطوارئ إلى تصعيد حزب العمال الكردستاني وتفجيرات داعش وأخواتها، إلى التوتر مع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، وليس انتهاء بالأزمة الاقتصادية وتراجع الليرة التركية أمام الدولار.
درع الفرات: رسائل روسية
سارت العملية في أيامها الأولى بسرعة وراكمت إنجازات مهمة، فأمنت جرابلس ثم الراعي، وتوجهت نحو الباب، بيد أن تقدم مجموعات الجيش السوري الحر نحو الباب تباطأ كثيرًا وتوقف لأسباب لوجستية وميدانية تتعلق بتأمين العمليات والقوات أحيانًا، وفي مناسبات أخرى يمكن اعتبارها رسائل روسية لأنقرة.
فمع نهايات شهر تشرين الأول/أكتوبر الفائت، نشر النظام منظومة دفاع أرضي في مواجهة الطائرات التركية، وهدد بإسقاطها، فغابت المقاتلات التركية لمدة 19 يومًا متتالية عن سماء سوريا، ولم تعد إلا بعد الزيارة التي قام بها رئيس أركان الجيش خلوصي أكار ورئيس جهاز الاستخبارات حاقان فيدان إلى موسكو.
وفي الرابع والعشرين من تشرين الثاني/نوفمبر الفائت، أي في الذكرى السنوية الأولى لإسقاط أنقرة للمقاتلة الروسية، قــُصِفت القوات التركية في جوار مدينة الباب وسقط ثلاثة جنود أتراك قتلى. تنصلت روسيا من المسؤولية واتهمت أنقرة النظام السوري، لكن التوقيت كان كثيف الدلالة بينما كانت النتيجة تباطؤ العملية.
تكمن أهمية «الباب» في أنها فعلا «باب» مدينة حلب، ولذلك تتسابق عليها من عدة محاور قوى ثلاث: مجموعات الجيش السوري الحر المدعومة تركيًا، وقوات النظام المدعومة روسيًا، والفصائل الكردية المدعومة أمريكيًا؛ وهو ما يرجح ألا يكون التقدم التركي مع الجيش الحر نحوها سلسًا ودون عقبات.
بالنسبة لتركيا، تزداد أهمية الباب أيضًا بسبب حاجة تركيا لتوسيع نطاق السيطرة سعيًا نحو أرضية مناسبة لفكرة المنطقة الآمنة من جهة، وحتى تتفرغ أكثر لمنبج والرقة من جهة أخرى.
حلب: زاوية نظر مختلفة
ليس من الصعب شرح الأهمية الاستراتيجية والجيوبوليتيكية لمدينة حلب بالنسبة لتركيا، فهي عمقها الاستراتيجي وجوارها القريب وكانت أنقرة -وما زالت- تعدها، مع الموصل، خط دفاعها الأول عن الحدود التركية، كما أن فصائل «الجبهة الشمالية» كانت دومًا الأقرب للدعم التركي.
بيد أن سقف أنقرة بخصوص ما يدور في حلب يبدو مختلفًا جدًا عن المواقف التركية السابقة عالية السقف، في تناغم واضح مع انخفاض سقف الموقف التركي في عموم القضية السورية.
صحيح أن الرئيس التركي صرح مؤخرًا بأن الهدف الرئيس لتركيا من عملية درع الفرات هو إسقاط نظام الأسد، لكن الكل يعلم أن هذا السقف قد تم تخطيه منذ فترة طويلة، وربما تم وأده مع أول خطوة في عملية درع الفرات بعد التفاهم مع الدب الروسي، ولذلك فلم تتأخر التصريحات «الشارحة» لهذا التصريح والنافية استهداف أي طرف (دولة أو شخص) عدا التنظيمات الإرهابية، أولا على لسان أردوغان نفسه، ثم على لسان وزير الخارجية تشاووش أوغلو في حضور نظيره الروسي.
تتحدث أنقرة عن حلب من زاوية الأزمة الإنسانية فيها حصرًا، ولا تتطرق أبدًا لوضع المعارضة فيها ولا تسعى لتصنيفها -كما كانت تفعل- إلى متشددة ومعتدلة (تلك التي لا ينبغي قصفها). كما تُحمِّل التصريحات الرسمية التركية المسؤولية الكاملة عما يحصل في حلب للنظام السوري حصرًا، رغم المشاركة الفاعلة والمكثفة للطائرات الروسية في العمليات، في حرص واضح على بقاء التواصل والتفاهم مع موسكو، فضلاً عن أن تقدم دعماً ملموساً يساعد المعارضة على الصمود في أقل الأحوال.
أكثر من ذلك، فقد استضافت أنقرة جولة تفاوض حول الأوضاع في حلب وشروط وقف إطلاق النار فيها بين وزارة الدفاع الروسية وممثلين عن الفصائل السورية المقاتلة في حلب، وهو ما قد يشير إلى تحول تركيا من حليف داعم إلى وسيط بين الطرفين في أحسن الأحوال فيما يخص شرق حلب. وهو التطور الذي أوحى للكثيرين بفكرة أن أنقرة قد قايضت حلب بالباب في تفاهماتها مع موسكو سيما وأن العمليات في الطرفين تسير على التوازي وبالتزامن ودون أدنى تأثر أو تأثير بينهما وكأنهما معركتان في قارتين متباعدتين وليس في مدينتين متجاورتين.
العلاقة مع روسيا
ثمة أسباب كثيرة تقف خلف المتغيرات شبه الجذرية للسياسة الخارجية التركية، وفي القلب منها القضية السورية، تطرقنا لها في مقالة سابقة، ويبدو أن العلاقة المعقدة مع روسيا جزء مهم من هذه المعادلة.
لا يمكن إطلاق توصيف واحد على موقع روسيا في السياسة الخارجية التركية، وإنما هي عدة توصيفات أو أدوار متداخلة ومعقدة. فهي أولاً عدو تاريخي لطالما خاض الحروب مع تركيا والدولة العثمانية قبلها، ولديه أطماع غير خافية بالموانئ والمضائق. وهي ثانيًا، دولة منافسة تتضارب مصالحها مع تركيا في عدة ملفات، أهمها السيادة في البحر الأسود، وإقليم ناغورنو كارباخ، وشبه جزيرة القرم، إضافة لعضوية تركيا في حلف شمال الأطلسي، فضلاً عن أن التفاهمات الأخيرة في سوريا لا تلغي التضارب المبدئي الكبير في المصالح.
وروسيا، ثالثًا، دولة جارة تربطها بتركيا مصالح اقتصادية وتجارية ضخمة تبدأ بملف الطاقة ولا تنتهي المشاريع الضخمة مثل محطة «أك كويو» للطاقة النووية ومشروع «السيل التركي» للغاز الطبيعي. وهي، رابعًا، الدولة صاحبة القرار الأول في سوريا سياسيًا وميدانيًا، بمعنى أنها تملك قرار النظام وهي القادرة على ضمان أمن القوات التركية المشاركة في درع الفرات.
وأخيرًا، فروسيا خيار استراتيجي بالنسبة لتركيا لتعديل بوصلة سياستها الخارجية وإعطائها شيئًا من التوازن (مع الغرب) والاستقلالية الجزئية (عنه)، وهو ما بلورته أنقرة في التعاون الوثيق في سوريا وتنمية العلاقات الاقتصادية وطلب الانضمام لمنظمة «شنغهاي» للتعاون التي تقودها كل من روسيا والصين في مواجهة حلف الناتو والمنظومة الغربية.
بمجموع هذه العوامل وتداخلها، تبدو حاجة أنقرة لموسكو أكبر أو أكثر إلحاحًا من مواجهتها، ولو بالوكالة أو حتى خطابياً، ولذلك نجد أن التصريحات التركية تتحاشى توجيه أي لوم للروس بينما تؤكد على لسان أكثر من مسؤول على ضرورة التعاون والتواصل مع موسكو للوصول إلى حلول ما (للوضع الإنساني في حلب مثلا)، ولعل استمرار الضوء الروسي الأخضر لعملية درع الفرات وضمانة سلامة الجنود الأتراك هي الدوافع التي صاغت الأولوية التي تتخذ أنقرة بناء عليها باقي مواقفها.
مع ترامب
لعل أكثر ما كتب عن تعامل الرئيس الأمريكي الحالي مع الأزمة السورية تمحور حول ضعفه وجبنه وتركه الساحة لروسيا التي نفذت سياساتها وضمنت مصالحها وعادت إلى المنطقة كقوة عالمية وليس إقليمية فقط. ورغم أنني لا أميل لهذه التحليلات التبسيطية وأرى أن أوباما نفذ ما أراده هو باستدامة الأزمة و«حرق» الجميع بها وتوريطهم واستنزافهم دون أي خسارة استراتيجية لبلاده، إلا أن المرحلة تعدته فعليًا وبات الكل ينظر للرئيس المنتخب محاولاً استشراف سياساته وتحليل تصريحاته.
بالنسبة لتركيا، فقد بلغ الاستياء من إدارة أوباما حد الاقتناع بأنه «لا أسوأ من العلاقات التركية – الأمريكية الحالية، وأي بديل سيكون أفضل»، وباعتبار أن كلينتون تنتمي للحزب الديمقراطي كما أوباما، كان ثمة رغبة تركية بـ «تغيير الوجوه»، تدعمت لاحقًا بخطاب المرشحة الرئاسية عن الفصائل الكردية وتلقي حملتها دعمًا من «الكيان الموازي»، وبالتالي فقد رحبت أنقرة بانتخاب ترامب وتمنت معه عهدًا جديدًا في العلاقات.
لكن، إلى أي مدى ستتأثر السياسة التركية في سوريا بمجيء ترامب؟
الجواب الأسرع والأكثر دقة والأقرب للمنطق هو الضبابية وعدم الوضوح بسبب غياب أي خلفية سياسية أو فكرية للرجل القادم لأهم منصب في العالم من عالم المال والأعمال. لكن التصريحات التي وردت على لسانه خلال الحملة الانتخابية وبعدها، والأسماء التي اختارها لبعض المناصب تلقي بعض الضوء على سياقات عامة ضمن «رؤيته» في السياسة الخارجية سيما في سوريا، وأهمها:
أولا، انكفاء الولايات المتحدة على أولوياتها الداخلية وتقليل انخراطها في الأزمات الدولية، ولعلها استراتيجية قريبة مما فعله أوباما على مدى سنوات.
ثانيًا، أولوية قتال داعش والتخلي عن «أفكار إسقاط الأنظمة».
ثالثًا، التعاون الوثيق مع روسيا في سوريا.
رابعًا، إعادة الاعتبار لسياسة الاعتماد على الحلفاء في المنطقة.
خامسًا، استشعار أهمية الفصائل الكردية في محاربة داعش كفاعل محلي، ورغبة في جمعهم مع تركيا في هذا الإطار. ولعل هذه الفصائل هي الأوفر حظًا للحصول على مضادات الطيران التي سمح الكونغرس لترامب بتزويد «المعارضة السورية» بها، إن اختار ذلك طبعًا.
وبالتالي، و مع التحوط لكون هذه الخطوط العامة غير ثابتة وغير أكيدة قبل دخول ترامب البيت الأبيض في العشرين من كانون الثاني/يناير المقبل وإعلان رؤيته للسياسة الخارجية، إلا أن ما هو متاح حتى الآن لا يفتح الكثير من الآفاق لمتغيرات ما في السياسة الخارجية التركية إزاء سوريا.
هذه السياقات – المتوقعة حتى الآن – في سياسة ترامب الخارجية قد تدفع أنقرة للتقارب مع موسكو أكثر وليس العكس، رغم حرصها على علاقات أوثق وأفضل مع واشنطن. فما الذي يمكن أن يغيرها؟
تقديري أن السياسة التركية الحالية في سوريا أتت بعد تراكم سنوات من الشد والجذب ونتاج عوامل كثيرة جدًا أوصلت أنقرة لقناعات معينة بخصوص سياستها الخارجية والأزمة السورية فضلا عن سقف المجتمع الدولي في الأزمة والتوازنات الدولية والإقليمية القائمة، وبالتالي فمن غير المتوقع تغيرها قريبًا، سيما إن كنا نتحدث عن تغيرات جذرية.
لكن تطورات وتبدلات هذا الموقف على مدى السنوات الست السابقة، إضافة إلى عدم استقرار علاقات التعاون بين أنقرة وموسكو، يترك مساحة لا بأس بها ممكنة لتعديل ما، بل وربما لتغير كامل. لكن ذلك سيحتاج إلى متغيرات/تطورات كبيرة أيضًا تدفع أنقرة إلى خيار مشابه، كمواجهة ما بين الناتو وروسيا تضطر فيها تركيا لاتخاذ مواقف واضحة إلى جانب تحالفاتها التقليدية وبالتالي عودة سياستها الخارجية لمحورها الغربي، أو تغير المشهد الميداني في سوريا بشكل جذري مثل أن تتحول الثورة إلى حرف استنزاف للروس وتزداد الضغوط على موسكو، أو تبني المجتمع الدولي موقفًا مغايرًا من النظام وروسيا، أو غيرها من المتغيرات، وإلا فاستمرار تركيا في دعم الحل السياسي وفق ما يمكن أن يقبله موسكو في إطار التفاهمات الروسية – التركية رغم الخلافات هو المتوقع على المديين القريب والمتوسط.
النص الأصلي اضغط هنــــــــــــــــا