لم تكن تنقص الإدانات الواسعة التي أثارها الاعتداء الإرهابي ضد الكنيسة البطرسية في القاهرة الأحد الماضي، سوى مداخلة باكية من «أبو بكر البغدادي». امتدت المواقف المنددة لتشمل، للمرة الأولى، فصيلين مسلحين، هما «لواء الثورة» وحركة «حسم» الخارجان من عباءة «الإخوان المسلمين».
والفصيلان لم يكتفيا باستنكار الهجوم والتبرؤ منه، بل قدما التعازي لأهالي الضحايا. وإذا كانت في إدانة الفصيلين المسلحين الأكثر نشاطاً في تنفيذ الاغتيالات والاعتداءات خارج سيناء، مفارقة صارخة لا تحتاج إلى توضيح، فإن مفارقات مماثلة وسمت إدانات أطراف مختلفة ومواقفها بعد الهجوم، سواء في الحكم أو المعارضة العلمانية، أو بالطبع في أوساط الإسلاميين.
جماعة «الإخوان المسلمين» التي أحرق أنصارها مئات الكنائس بعد فض اعتصاميهم في القاهرة والجيزة في العام 2013، ثم أمضت العامين اللاحقين على الفض في التحريض ضد الأقباط عبر أدواتها الإعلامية وكياناتها المختلفة، باعتبارهم «شركاء في الانقلاب» على حكمها وأحياناً «مدبري الانقلاب»، سارعت إلى إدانة تفجير الكنيسة البطرسية وليّ عنق المنطق باتهام هذا «الانقلاب» نفسه بتنفيذ الاعتداء «لاستمرار فزاعة الحرب الطائفية»، وكأنها ليست المسؤول الأكبر عن التحريض، على الأقل بسابقة الأعمال وبتهيئة أجواء الشحن الطائفي والاستثمار فيها حتى لحظتنا هذه.
بعض الأصوات المحسوبة على «الثورة» اتخذ مواقف شبيهة في تناقضها أيضاً. فجاءت إدانة الإرهاب متبوعة بالتذكير بالدور السياسي للكنيسة في «دعم النظام» ولوم الأقباط على هذا الموقف باعتبارهم المسؤولين، ليس فقط عما آلت إليه أوضاعهم، بل عن مصير الحراك الذي أطلقته الانتفاضة الشعبية في العام 2011، في تقاطع مع سردية الإسلام السياسي التي تحمّل الأقباط أكثر مما يحتمل حجمهم ودورهم. وهذا الخطاب ليس فقط استقالة سهلة وتنصلاً ضمنياً من مسؤولية التيار «الثوري» عن فشل تجربة التحول الديموقراطي في السنوات الخمس الماضية، عبر تحميلها للطرف الأضعف في المعادلة، بل انه ينضوي على تجاهل فادح للماضي القريب حين غضّ قطاع عريض من هذا التيار الطرف عن قمع تظاهرات ماسبيرو الشهيرة، وهي كانت في جوهرها محاولة قطاع من الأقباط لتحقيق «التحرر من الهيمنة السياسية للكنيسة» الذي لا يكف التيار «الثوري» عن المطالبة به، إضافة إلى الاستخفاف الذي تعامل به معظم هذا التيار مع مخاوف الأقباط الوجودية في ظل حكم «الإخوان» القصير.
تعامل الحكم وبعض المحسوبين عليه مع الاعتداء كان إشكالياً أيضاً، فضاق باتهامات التقصير الأمني ورفضها، على رغم أن كاميرات المراقبة أظهرت أن الانتحاري المفترض تسلل إلى الكنيسة بحمولته الناسفة من دون أن يعترضه أحد في مجمع الكاتدرائية الأم الذي يُتوقّع أن يكون الأعلى تأميناً. وهو لجأ في معالجة المشهد إلى أدوات أنهكت استخداماً ولم تثمر تغييراً، مثل مشاهد عناق الشيوخ والقساوسة.
كما استُفِز إعلاميوه بالاحتجاجات الغاضبة التي واجهوها أمام الكاتدرائية بعد التفجير، واتهم أحدهم المحتجين بأنهم «ليسوا مصريين». وكلا الموقفين ينسجم مع توقعات التماهي الكامل للأقباط مع السلطة، بصرف النظر عن خصوصيتهم وحساسية وضعهم. وهذا توجه يدعم دعايات الإسلاميين ضد الأقباط ويكرس وضعهم كمكسر عصا لتنفيس الإحباطات.
\ لا يعني نقد هذه المواقف إعفاء الأقباط، أو قيادتهم الكنسية على الأقل، من الانتقادات، فهم ارتكبوا أخطاء مثل غيرهم من الأطراف الفاعلة، وإن كان تأثير هذه الأخطاء في التطور العام للأحداث في السنوات الخمس الماضية موضع خلاف. غير أن الاستهداف الأخير كان يتطلب إدانات غير مشفوعة بـ «لكن» ومتجاوزة للاستخدام السياسي، خصوصاً أن فداحة الاعتداء واحتمالات تكراره تهدد مستقبل التعايش الطائفي وتفتح الباب على وضع شبيه بالحال العراقية. مراجعة مواقف قيادات الأقباط وخياراتها ضرورية ومطلوبة في إطار مراجعات أشمل من الأطراف الفاعلة كلها. لكن على هذه الأطراف أن تدرك أن الأقباط ليسوا مسؤولين عن تحقيق أحلامها ومشاريعها المتعثرة.