مع دخول فصائل من «الجيش السوري الحر» مدعومة بقوات تركية مدينة الباب، بدأت تتضح معالم الجغرافية العسكرية لمجمل محافظة حلب التي ظلت طوال الأعوام الثلاثة الماضية عنواناً للفوضى العسكرية وعنواناً آخر لفوضى المصالح الإقليمية والدولية المتضاربة فيها. وإذا كان السماح لتركيا بدخول الشمال السوري تحت عنوان عملية «درع الفرات» كشف الملامح الأولية لهذه الجغرافية العسكرية الجديدة في المحافظة، فإن إطلاق معركة الباب بعد أسابيع من الصمت حدد الملامح النهائية للواقع العسكري الجديد.
تطلب الأمر بين سيطرة «درع الفرات» على بلدتي دابق وتل رفعت، وإطلاق معركة الباب نحو شهرين، تخللتهما مفاوضات علنية وسرية بين الثلاثي التركي-الروسي- الأميركي لحسم الحصص الإقليمية والدولية، ليس في حلب فحسب، بل أيضا في الشمال الغربي والشمال الأوسط لسوريا (الرقة). وجاء إعلان «قوات سوريا الديموقراطية» المدعومة أميركياً بدء معركة الرقة في الخامس من تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، ليقضي على التكهنات حول مصير محافظة الرقة ومن هي الجهة التي ستتولى المعركة وبالتالي ستؤول إليها السيطرة على المحافظة معقل التنظيم في سوريا، في وقت بقيت حلب مدار التفاهمات الروسية- الأميركية.
غير أن توقيت بدء معركة الباب من قبل «درع الفرات» يحمل الكثير من الدلالات:
1- جاءت العملية العسكرية بعد ثلاثة أيام من إعلان «قوات سوريا الديموقراطية» عدم مشاركتها في تحرير الباب من تنظيم الدولة، على الرغم من إعلانها أن مجلس الباب العسكري المشكل من قبلها سيشارك في العملية العسكرية.
2- كما جاء توقيت إطلاق معركة الباب بالتزامن مع محادثات تركية- أميركية عقدت في قاعدة أنجرليك التركية على مستوى رؤساء أركان الدولتين لبحث آفاق «درع الفرات» في محافظة حلب، وبعد أيام من محادثات أكثر أهمية عقدت في موسكو بين رئيس الوزراء التركي بن علي يلدريم والرئيس الروسي فلاديمير بوتين.
3- جاء إطلاق المعركة بعد سيطرة قوات النظام على معظم الأحياء الشرقية لحلب، وحسم مصير المدينة لصالح النظام وتجاوز الأخير منعطف حلب.
فمسألة تشكيل كيان كردي موحد يمتد من غرب حلب إلى جرابلس قد حسمت لصالح تركيا، مقابل إعطاء الأخيرة حصتها بما يضمن أمنها القومي شرط خفضها السقف السياسي والعسكري في سورية، الأمر الذي بدا وضحاً من خلال انسحاب بعض القوى المؤيدة لتركيا من مدينة حلب من جهة، ومن خلال التصريحات المتعلقة بمصير النظام والأسد من جهة ثانية.
وهكذا سيكون المثلث الجغرافي الممتد من جرابلس إلى تل رفعت إلى الباب بيد الأتراك، على أن يخضع الريف الغربي لحلب للأكراد، وتترك مدينة حلب وريفيها الشرقي والجنوبي للنظام مع بعض المناطق في الريف الشمالي الغربي.
من الواضح أن المقاربة الأميركية- الروسية غير المعلن عنها تقوم على تقويض القوى الإسلامية المتطرفة (تنظيم الدولة، جبهة فتح الشام، جند الأقصى... إلخ)، في مرحلة أولى مع تعزيز القوى العلمانية السورية، بحث ينحصر المشهد العسكري في الشمال بين ثلاث قوى (النظام، قوات سوريا الديموقراطية بمكوناتها العربية والكردية، فصائل الجيش الحر)، على أن يترك مصير القوى الإسلامية الأخرى (أحرار الشام، جيش الإسلام) إلى مرحلة أخرى من التفاهمات الأميركية – الروسية.
وحتى ذلك الحين، لا بد من تحييد حلب عن الصراع الإقليمي الدولي ضمن رؤية أميركية لتغيير المعادلة الميدانية في عموم سوريا، لا يكون فيها للقوى الإسلامية الراديكالية مساحات وخيارات واسعة للتحرك، ولذلك سُمح لمحافظة إدلب أن تكون مستقراً لهذه القوى إلى حين استجلاء حقيقة الموقف الدولي مع وصول الإدارة الأميركية الجديدة إلى سدة الحكم.