عرّى الربيع العربي بأحداثه ومفاصله، اليسار العربي بغالبية مثقّفيه وأحزابه. فقد كشفت عجز هذا اليسار حتى عن التفكير في ما ينشأ ويتطور من جديد وما ينشأ من أحداث مُصمّمة.
كما كشفت بؤس منهجه القائم على اعتماد أفكار مقولبة وناجزة ونماذج غريبة ثم تحويلها إلى أيقونات كتلك التي يؤمن بها المتشدّد في دينه. ليس هذا فحسب، فبدل أن تكون الأيديولوجيا أدوات حفر وتفكيك وفهم وإدراك، صارت في زمن هذا اليسار نوعاً من الأختام العقلية. يدور فيها المفتاح فتنقفل على العقول إلى الأبد.
نقول هذا على مرأى من مشهد يميل فيه المثقفون اليساريون العرب إلى تبني نموذجين اثنين متكاملين. فمنهم مَن كشف لنا حقيقة يساريته/عورته حينما مال كلّياً إلى الحاكم المستبدّ الشديد البأس، ينافح عنه ويحاجج باسمه وينظّر عنه استناداً إلى «فكر يساري» و»ماركسية» و»طبقية» و»تحررية» و»ممانعية».
في الجهة الأخرى من المشهد، مثقفون من صلب هذا اليسار اختاروا - خلافاً للنموذج الأول - مجاراة المدّ الديني والانحياز إلى نموذج الشيخ الداعية وراء منبره يخطب ودّ الناس من غرائزها الأدنى ومن بؤسها. هذا اليساري، أيضاً، تطلّع إلى موقع التأثير من زاوية التدين الشعبي محاولاً أن يجد في علم نفس الجماهير ومؤسسه لوبان مصدر وحي وتبرير لسلوكه. واحد، من فرط يساريته، بلغ حد الطُغيان وآخر من فرط يساريته بلغ حدّ الأصولية الدينية!
المثقف الأول المعجب بالقائد الأب في رأس الدولة، ذهب إلى آخر مغامرته في مناصرة المستبدّ وعنفه - سورية مثل واضح - إلى حدّ أنه ألغى كل أطروحاته هو نفسه عن حق الشعوب بالتحرّر أو عن حق العمال والكادحين في تولّي الحكم بقوة الحتمية التاريخية. مثقّف توغّل في الدوغما حد العمى عن معاناة الشعوب وموتها اليومي وتدمير مقومات حياتها ومُنجزاتها. وهو المثقف الذي اعتاش ردحاً من الزمن على نظريات ممانعة ومقاومة وتحرر ونهل من نظريات كفاحية وحقوقية، وجدناه ينكفئ إلى الدجل السياسي المكشوف في تبرير وقوفه إلى جانب عنف السُلطان. لم تعد الأمور عنده مُركّبة ولا معقّدة كما كان يقول لتبرير عجزه عن الفعل الحقيقي. لم يعد ماركس المبكر ولا ماركس المتأخر ولا لينين ولا تروتسكي ولا فانون ولا غرامشي، لم يعد أحد من هؤلاء ينفع في قراءة الحال التي أوجدها الربيع العربي. فما إن لاحت بوادر التغيير بما يعنيه من فُرص وأخطار، وما يحمله من إرهاصات وعدم وضوح كجزء بنيوي من كل عملية انتقالية - حتى هرول المثقف اليساري العربي إلى غرائزه وانتماءاته الأولى يسير وفق بوصلتها تاركاً وراءه الموت الزؤام للمقاومين والمعارضين والتحرريين من جيل اليوم، الذين صدقوه في يوم من الأيام وساروا وراءه!
ربما أننا عوّلنا على يسار متخيّل غير موجود أصلاً - نقول لأنفسنا! لكننا قرأنا كل كتابات التنوّر العربية الأولى إلى الشيوعيين العرب إلى اليساريين العرب الدارسين في أفضل الجامعات ولدى أفضل الأساتذة النقديين. كان هناك فكر يساري حقيقي وكتابات يسارية حقيقية تسأل بحدة وتفكك من دون رحمة انقلب عليها الحرس القديم لليسار العربي من مختلف تياراته، لا سيما الماركسية - اللينينية التي لم يرفّ لها جفن وهي تسوّق لنا روسيا بوتين - الرجل القوي المتنفّذ المناهض للفئات المستضعفة وللديموقراطية - على أنه استمرار للشيوعية السوفياتية! لكن، لماذا العجب، وهذا صحيح من حيث الاستئثار بالسلطة وقمع كل بادرة ديموقراطية واستغلال الفئات الكادحة وتكريس نظام أوليغارخي بأربعة وعشرين قيراطاً؟! لماذا نعجب وهو صورة مخفّفة لستالين إياه الذي لا يزال بعض اليساريين العرب يحنّ إليه ويحتفظ بصوره وكُتبه في أعلى رفوف المكتبات أو على طاولاته يعود إليه كلما حُمّت الحاجات! أما اليساري الذي اكتشف التدين والدين ونصوصه، فانبرى يشحننا بنصوص عفا عليها الزمن من لدن المساجد والطُرق الدينية ومذاهبها. كصاحبه المعجب بالسلطان الحاكم بقوة الحديد والنار والتدمير، كان هذا اليساري معجباً بالنموذج الديني وما يوفّره من وضوح وسؤدد وصولاً إلى سدرة المنتهى. وهو أيضاً أحبّ السطوة من خلال النص المقدّس، واكتشف أن الجماهير تنقاد له بيُسر من خلال خطاب العقاب والثواب والوعد بالجنة ومن دون كبير جهد. لا حاجة الى إعمال العقل - حديث وحديثان وآية وآيتان فيسير الجمع وراءه معصوب العينين. يقول له اضرب فيضرب ويقول له ازحف فيزحف.
هذا يتبع نموذج السلطان القوي، وهذا يتطلع إلى استبدال السلطان القوي بخلافة عامة طامة أقوى وأكثر بأسا وإطلاقاً! إنهما لا يناقضان بعضهما إلا في كون الثاني يُريد أن يستبدل الأول. يُريد أن يقتله ليحتلّ مكانه. إنها الحركة العنيفة ذاتها لكن باتجاه معاكس. يسار هو في واقع الأمر حركة نحو اليمين المُطلق مرة بصيغة حاكم مستبدّ وعنيف، ومرة في صورة تديُّن أصولي استبدادي إقصائي. هكذا انحدر الذين نشأوا من نطفة يسارية معطوبة نحو اليمين الجذري، وأعطونا درساً في بؤس اليسار العربي وزيفه!
نقلًا عن "الحياة"