تسود حال من الغضب الشديد بين جموع المصريين وتصل إلى درجة تقارب الكمد بين المسيحيين منهم، على مدى الأيام القليلة الماضية، وتحديداً منذ تفجير الكنيسة البطرسية. فعلى رغم تجدد حديث التجديد في الخطاب الديني المنشود -أو بالأحرى المطلوب من الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي قبل عامين- إلا أن الخطاب الديني يقف محلك سر.
وعلى رغم فتح مجلس النواب المصري ليل أول من أمس الملف الشائك في محاولة لفك لوغاريتمات التجديد، إلا أن البدايات لا تبشر بإنجازات حقيقية منشودة. عقد اللجان وتنظيم اللقاءات وتدبير الدراسات وتنسيق المسؤوليات كما هو مخطط من قبل لجنة الشؤون الدينية في المجلس الممثل للشعب لم يشف غليل الراغبين في التجديد إنقاذاً لوحدة الصف المصري من الفتن والطائفية. وقف الجميع دقيقة حداداً على أرواح «شهداء مصر في الحوادث الإرهابية في الفترة الماضية». وتحدث وكيل البرلمان السيد الشريف عن أهمية تطوير الخطاب الديني، وأن هذا مسؤولية مشتركة بين المؤسستين الإسلامية والمسيحية. ودعا إلى وضع استراتيجية موحدة لتصحيح المفاهيم ومواجهة الفكر المتطرف «من خلال تطبيق الدين الوسطي المعتدل».
وحفلت قاعة البرلمان بأفكار واقتراحات لتنظيم مؤتمر خاص بالتجديد ووضع استراتيجيات موحدة تتم صياغتها في صورة تشريع يناقشه المسلمون والمسيحيون، وهو ما ثمّنه وكيل لجنة الشؤون الدينية أسامة العبد، الذي وصف البرلمان في كلمته بـ «البيت العتيق»، مشيراً إلى أن «الإخوة المسيحيين منا ونحن منهم» وأن اجتماع اللجنة يعد بداية للخروج من مرحلة الكلام النظري إلى التجديد الفعلي العملي «لمواجهة الإرهاب الأعمى الذي ضرب المسلمين والمسيحيين».
لكن المسيحيين والمسلمين غير الراضين عن توغل الفكر المتطرف، متوجسون خيفة من أن الهبة هذه المرة ستؤول إلى ما آلت إليه الهبات المماثلة على مدى العامين الماضيين، وتحديداً منذ أطلق الرئيس دعوته في الاحتفال بذكرى المولد النبوي الشريف في كانون الثاني (يناير) 2015. منال موريس (38 سنة) تقول إن «الدعوة إلى تجديد الخطاب الديني بالغة الإيجابية، لا سيما وأنها تأتي بعد ما أعلن المصريون -مسلمين ومسيحيين- رفضهم الحكم الديني الذي حاول الإخوان استهلاله. لكن هناك مقاومة مؤسسية وشعبية لحديث التجديد ويبدو أنها قوية».
قوة مقاومة حديث التجديد تبدو ملامحها وتتضح معالمها في أكثر من مكان. ومن داخل لجنة التجديد وفي عقر دار مجلس النواب، دار أول من أمس حديث ضارٍ ملتهب قوامه خلاف بين أعضاء اللجنة في شأن اعتبار ضحايا العمليات الإرهابية من المسيحيين «شهداء»، إضافة إلى أهمية تكفير «داعش» من عدمه، وذلك على رغم الاتفاق المبدئي على ضرورة تجديد الخطاب. وجاءت الآراء المطالبة بإصدار فتوى رسمية من دار الإفتاء المصرية تؤكد أن من يقتل في حادث إرهابي، سواء أكان مسلماً أو مسيحياً هو شهيد، من خارج المؤسسات الدينية الرسمية، وتحديداً من قبل أستاذ الطب النفسي أحمد عكاشة والديبلوماسي السابق مصطفى الفقي.
فقه التكفير وحكم الاستشهاد ومعيار المواطنة مازالت قضايا حيوية تعصف بحلم التجديد رغم بقاء جدلياتها الحساسة بعيداً من الأضواء، لكنها تبقى واضحة في ردود الفعل وقيود الفكر. عناوين الأخبار على مدى اليومين الماضيين تقول الكثير عن روح التجديد. فبين «وكيل البرلمان يشكر السيسي على مبادرة تجديد الخطاب الديني» وكلام السيسي نفسه عن أن «تجديد الخطاب أكبر من خطبة الجمعة» أو كلام آخرين عن أنه «يبدأ من الطفولة» أو «يحتاج التخلص من نصف المعلمين الموجودين حالياً» أو أنه «لن يمس الثوابت» أو أنه «فكر خارج الصندوق» أو «لن ينجح في ظل هيمنة الفكر السلفي» أو «لن يخرج إلى النور في وجود أدعياء التنوير مثل إسلام البحيري» أو «يحتاج ثورة مجتمعية»، أُتخِمت وسائل الإعلام بأحاديث تجديد تتضارب غالبيتها في المفهوم وتتناقض في المقصود، لكنها تهلل للفكرة.
وبينما الفكرة مازالت تبحث عن تعريف وتبدو خالية من المضمون، تتسارع أسماء عدة وتتسابق جهات كثيرة للهيمنة على خطاب التجديد، ويا حبذا احتكاره خوفاً إما من فقدان سيطرتها أو رغبة في العودة بالجميع إلى المربع صفر حيث يسيطر أصحاب الفكر المتجمد على «توكيل» التجديد.
الجميع ينتظر حالياً ما سيؤول إليه خطاب التجديد، بين متعلق بأمل تجديد حقيقي، ومتشبث بطوق الحفاظ على ما يعتبره تراثاً دينياً ثابتاً، وإن كان يحوي حديث كراهية واضحاً، ومحذر من أن إرجاء التجديد أكثر من ذلك يساعد على استمرار تفجير قنابل التطرف الموقوتة، ومؤكد أن التجديد يحتاج إلى لجان رئيسة تنبثق منها لجان فرعية وكل منها يحتاج مؤتمرات وطنية توصي بعقد لقاءات دينية تخرج توصيات علمية يتم عرضها على مجموعات أساسية تخضعها لدراسة متأنية، ثم تخرج بها نتائج استشارية تحال إلى المنوط بهم التجديد ليخضعوها لجلسات تفنيد، وهلم جراً.