سقطت حلب، وبدأ الاستنكار والألم واللطم حيال ما قد يكون من أفظع الكوارث الإنسانية، لتتضاعف هذه الأحاسيس مع الاعتراف بحالة العجز المطلقة التي تواكب المعرفة الشاملة بالمجزرة.
فمع التغطية المباشرة لعملية القتل والحرق والسحل، سقط إمكان تمرير هذا الحدث تحت غطاء «الجهل» للتعايش مع الفضيحة الأخلاقية التي تُفرض على كل مشاهد - مشارك في هذا الحدث. فلم نكن شاهدين على آلام الضحايا بالقدر الذي كنّا فيه جمهوراً للقاتل، نؤكد مع كل صرخة استنكار نصره الإلهي. ومع سقوط الجهل كمخرج من أزمتنا الأخلاقية، وجدنا العجز في محاولة إنقاذ بعض من الأسس الأخلاقية التي تشكّل عالمنا. سقطت مقولة «لم نكن ندري»، فرفعنا مكانها عنواناً آخر: «ليس في إمكاننا فعل شيء».
بيد أن هذا العجز لم تفرضه الظروف أو المشيئة الإلهية. فتذكرنا حلب بضع ساعات قبل سقوطها، محاولين تهريب ما تبقى من أخلاقنا عبر الممرات الإنسانية التي انتهت فيها الثورة. ومن الطبيعي لمن كان خارج السمع في السنوات الماضية، ألا يجد إلا «العالم» حائط مبكى لصرخاته المجرّدة. العجز الأخلاقي هو ثمن الكسل السياسي، وقد تحوّل إلى تقنية لتطبيع العنف ولتمرير لحظة التخلّي هذه.
فمقولة العجز، بخاصة لدى المستنكرين اللبنانيين، باتت طريقة لتجريد ما هي معضلة سياسية وأخلاقية ستخلفها مجزرة حلب، وعنوانها «حزب الله». فحلب لم تسقط أمام البرابرة، بل أمام تحالف من أهم مكوّناته حزب لبناني بات القوة الأساسية في هذا البلد. فالسؤال «الأخلاقوي» قد يكون «كيف قبلنا بالمجزرة؟»، لكن ترجمته السياسية هي «كيف قبلنا بالجزار؟». وهنا، لا مهرب للبنانيين من مواجهة حقيقة أنّ الجزار قد طبّع سنوات ما قبل الجريمة، تحت عناوين مختلفة. فتأكيد محورية مجزرة حلب يفرض سؤال حزب الله، وهو سؤال سيعود ليسكن لبنان مع عودة آلاف مقاتلي الحزب منتصرين من حلب ومطالبين الداخل بمكافأتهم لقتالهم الشرس.
وهذا السؤال ليس جديداً وإن كان البعض يواجهه اليوم. فمنذ صعوده السياسي في بداية هذا القرن، وحزب الله يفرض هذا السؤال - الابتزاز عن تطبيع عنفه. من اغتيال رفيق الحريري إلى أحداث ٧ أيار (مايو) وصولاً إلى تدخّله في سورية، والحزب يتلاعب بهشاشة السلم الأهلي مبتزاً معارضيه بعنف أكبر. وجاءت المجازر السورية لتؤكد هذه المنحة دافعة الابتزاز إلى حدوده القصوى. العجز في مقاومة ما يجري في حلب يعود جزئياً إلى تطبيع هذا المسار. شككنا في الاغتيال، فوجئنا بالمتفجرات، ابتسمنا للسرايا، سكتنا على التدخل، تجاهلنا الأصداء، فتفاجأنا بحلب وصرخنا عاجزين أمام ما بدا كارثة طبيعية.
وهذا التطبيع يعيد إنتاج نفسه كلّما عارضنا حزب الله كأنّه حزب كسائر الأحزاب اللبنانية. ففي تموجات عباءة السيد، هناك مسافات للاختلاف مسموحة، طالما تم تسديد ثمن الدخول وهو القبول بحلب. فمن آخر السجالات حول مساحات الاختلاف، مسألة منع احتفال في الجامعة اللبنانية كانت ستُسمع فيه تسجيلات لأغاني فيروز. وكما العادة، كانت حفلة إدانة للدفاع عن الأيقونة اللبنانية وحرية التعبير و«حب الحياة»، لتتحوّل فيروز إلى رمز للبنان الذي يريد حزب الله تطويعه، وهذا بعد أن، أو حتى لو، أو ربّما لأن، فيروز أبدت سابقاً إعجابها بنصر الله. بيد أنّ هذا النقد لحزب الله، كما شأن أكثرية المعارضة الحالية لهذا الحزب، بات إحدى طرق تطبيعه والتأقلم مع حكمه. فالانتفاض لحرية فيروز والدفاع عن التنوع والحريات خارج سياق حزب الله العنفي والدموي هما التطبيع مع القتل. نقبل بالمجزرة إذا سمحتم بسماع الأغاني أو بتنوع الأذواق الموسيقية. هذه باتت شروط السياسة في لبنان.
حزب الله، أو طلابه، لم يمنعوا فيروز لأي سبب إلا لقدرتهم المتنامية على المنع، والتي تطورت على وطأة عنف متزايد خارج الجامعة اللبنانية. فحصر القضية بمسألة حريات عامة أو بالدفاع عن ثقافة «لبنانية» يهدّدها دخيل ديني، حجج لا تلتقط تقنيات سيطرة حزب الله. فهو قد ينظم حفلاً لفيروز في حلب إذا أراد، هذا ليس صلب المشكلة. كما أن الحزب أصبح كتلة من التعقيدات والتوازنات لا تلخّصها أي رواية تسطيحية. بيد أن هذا كله لا ينفي الطابع العنفي للحزب، والذي يتزايد مع استمرار الحرب في سورية. إهمال هذا الجانب هو سبب العجز الذي نواجهه في حلب اليوم. الأحزاب في لبنان تعارض وتحارب، أما حزب الله فنتوسل له لكي يقبل بفيروز، ربّما لقبولنا بأن يدمر حلب.
ليس من عجز أمام حلب بل تخلٍّ، ولهذا التخلي مسار واضح. المعضلة أنّه ليس هناك حالياً من أرضية يمكن أن تواجه ابتزاز حزب الله، بيد أنّ هذا لا يفرض التطبيع مع القتل كخيار وحيد. فبدل الهروب إلى أخلاقوية مجردة تلوم العالم على تخلّيه عن إنسانيته، ربّما كان من الأجدى البحث في قبولنا نحن بالجزار، ومحاولة تسييس هذا الواقع. هذا إذا لم نُرد أن نجد أنفسنا بعد سنة أو سنتين نردد، ومن دون سخرية، أن «الأمين العام جيد، لكن من يحيط به فاسد».
* كاتب لبناني
نقلا عن الحياة