يشكل تقرير تلاه الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون أمام مجلس الأمن في جلسته بتاريخ 13 كانون الأول (ديسمبر) لبحث نتائج سقوط الجزء الشرقي لمدينة حلب، مستنداً تاريخياً للمآسي التي واجهها السكان المدنيون، إذ بلغت عمليات القتل مستوى لم تشهده نزاعات سابقة منذ الحرب العالمية الثانية، وذلك وفق تقارير تسلمتها المفوضية العليا لحقوق الإنسان حول الفظاعات التي ارتُكبت في حلب بحق المدنيين بمن فيهم النساء والأطفال، حيث جرى جمعهم من أربعة أحياء وإعدامهم. حدث ذلك على رغم التحذيرات المتكررة خلال ثلاثة أشهر من كل الوكالات الدولية المهمة حول ما يجري في حلب، وخصوصاً من الممثل الخاص للأمين العام ستيفان دي ميستورا الذي حذّر من إمكانية تدمير حلب قبل نهاية العام الحالي.
فشل مجلس الأمن منذ أيلول (سبتمبر) الماضي ثلاث مرات متتالية في اعتماد قرار يقضي بفرض هدنة إنسانية، تسمح بإخراج المرضى والمصابين، وإدخال المساعدات الغذائية والطبية لأكثر من مئتي ألف مدني محاصرين. ويُظهر الفشل مدى تخلي المجتمع الدولي عن الثورة والشعب السوريين على حد سواء، لقد تخلى مجلس الأمن فعلياً عن كامل مسؤوليته في الحفاظ على الأمن والاستقرار الدوليين، ودفعت هذه الحقيقة بان كي مون إلى القول «إن التاريخ لن يغفر لنا هذا التقاعس الفاضح في نصرة وحماية أهل حلب».
كان المشهد درامياً في الجلسة الأخيرة لمجلس الأمن حيث ندّد مندوبو الدول الأعضاء، باستثناء الروسي والسوري، بالجرائم التي تُرتكب بحق المدنيين، ووصفوها بأنها ترقى إلى جرائم حرب، لا بدّ من معاقبة مرتكبيها. كما طالبوا بإلحاح النظام السوري وحليفيه روسيا وإيران، بالالتزام بالقانون الدولي الإنساني، وتسهيل خروج المدنيين من حلب المحاصرة، وبأن على جميع الأطراف الالتزام باحترام قوانين الحرب وحقوق الإنسان.
في رأينا كان من الواضح منذ بداية أيلول الماضي أن هناك قراراً اتخذه النظام السوري وحليفاه الروسي والإيراني بإسقاط الأحياء الشرقية لمدينة حلب وطرد المسلحين والسكان منها. وكانت الحجة الروسية تركّزت على طرد الإرهابيين، وتحديداً العناصر التابعة لجبهة فتح الشام أو ما كان يُعرف سابقاً بجبهة النصرة، والذين لا يتعدى عددهم ألف مقاتل. وكانت الحجة الروسية واهية بحيث رفضها المجتمع الدولي كما أدت الى تجميد المفاوضات بين وزيري الخارجية الروسي لافروف ونظيره الأميركي جون كيري. وتؤشر التحضيرات الميدانية، والحشد العسكري والقصف الكثيف الذي انصب على أحياء حلب، بأن الأطراف الثلاثة اعتمدوا استراتيجية الحسم العسكري من أجل إنهاء الصراع في سورية، وبأن ذلك لن يقتصر على حلب، بل سيشمل الجبهات الأخرى، مع ترجيح أن تكون إدلب الهدف التالي.
لا بدّ من التوقف هنا ومناقشة هذه المقاربة العسكرية لإنهاء الصراع في سورية، انطلاقاً من القياس على ما انتهت إليه الصراعات التي شهدتها دول أخرى خلال العقود الماضية، وبدءاً من الحرب في شمال إرلندا إلى الأزمة في البوسنة وبقية الكيانات التي نشأت في البلقان نتيجة تفكك الاتحاد اليوغوسلافي، حيث انتهت كل هذه الأزمات من خلال العمل السياسي والديبلوماسي، وعلى أساس حصول حوارات وتفاهمات محلية وإقليمية ودولية. ولا بدّ أيضاً من الإشارة إلى أن الحروب المستمرة منذ أكثر من ثلاثة عقود لم تحل الأزمة الأفغانية، كما أن الصراع على السلطة الذي يشهده العراق منذ عام 2003، غير مرشح للانتهاء مع طرد «الدولة الإسلامية» من الموصل. فالحل في أفغانستان والعراق لا يمكن أن يتحقق إلا عبر العمل السياسي، الهادف إلى مصالحة شاملة بين المكونات والديناميات الوطنية، وبالتالي اعتماد حل سياسي يؤدي إلى نظام جديد يؤمّن تقاسم السلطة بين المكونات السياسية والاجتماعية في شكل عملي وعادل.
ألتقي في هذا المجال مع كل الباحثين والمراقبين الدوليين، وأيضاً مع الجهود التي بذلها ممثلو الأمين العام للأمم المتحدة كوفي أنان والأخضر الإبراهيمي، واستيفان دي ميستورا حول حتمية حل الصراع في سورية من خلال البحث عن حل سياسي. وسبق لي أن ناقشت هذا الأمر في شكل تفصيلي في كتابي «الربيع العربي والبركان السوري: نحو سايكس - بيكو جديد» الذي صدر في كانون الأول (ديسمبر) 2012، حيث تصورت أن الحل يمكن أن يتحقق من خلال اعتماد آلية كتلك التي اعتمدت في مؤتمر «دايتون» من أجل حل الأزمة في البوسنة.
ما جرى في جلسة مجلس الأمن الأخيرة، وما سمعناه من إدانات من الولايات المتحدة والدول الأوروبية لن يقدّم أو يؤخّر في مصير المدنيين والمقاتلين المحاصرين داخل حلب أو في الغوطة أو غيرها من المناطق مثل مضايا والزبداني. وهو يعكس حقيقة النفاق الدولي وتنصّله من المسؤولية الأخلاقـــية والقانونية عن الجرائم التي ترتكبها روسيا وإيران مـــن أجل دعم نظام بشار الأسد والحفاظ عليه على رأس السلطة. كان من الواضح جداً منذ آب (أغسطس) 2013 بأن الولايات المتحدة تخلت عن مسؤولياتها في الحفاظ على الأمن والنظام في سورية، وذلك عنـــدما قــرر الرئيس أوباما القبول بعقد صفقة مع روسيا من أجـــل وقف تهديداته بمعاقبة نظام الأسد لتجاوزه الخطوط الحمر واستعمال السلاح الكيماوي ضد المدنيين في الغوطة.
من المؤكد أن الصراع في سورية لن ينتهي مع سقوط حلب أو مع خروج المسلحين والمدنيين من أحيائها المحاصرة باتفاق روسي - تركي، فالصراع سيستمر طالما اعتقد النظام السوري وحليفاه الروسي والإيراني بإمكانية حسمه من خلال تحقيق سلسلة من الانتصارات العسكرية، ضد الفصائل المسلحة، وضد «الدولة الإسلامية» وإسقاط خلافتها في الموصل والرقة. ستؤدي مثل هذه الانتصارات إلى تغيير طبيعة الحرب من حرب على المدن الى حرب ثورية متحركة وطويلة.
القتل الذي سيلحق بالمدنيين في سياق المعارك المرتقبة سيؤدي حتماً إلى زيادة عدد النازحين واللاجئين، وتضخيم أزمتهم داخل سورية وفي دول الجوار، وفي القارة الأوروبية. وسيؤدي حصول المزيد من المجازر وعمليات التصفية الممنجهة التي يرتكبها النظام إلى مزيد من التطرف، والذي سيؤدي إلى انسلاخ مجموعات مقاتلة عن التنظيمات المعتدلة للالتحاق بجبهة تحرير الشام وبـ «الدولة الإسلامية».
تشكل هذه التداعيات التي سيتسبب فيها إسقاط شرق حلب، مع ما سيلحقها من عمليات هجومية ينفذها النظام السوري وحليفاه الروسي والإيراني في إدلب وباتجاه الرقة وفي ريف دمشق إلى مزيد من القتل والنزوح والتدمير، وسيشكل كل هذا رسالة شؤم وإحباط للاجئين في الخارج، ويجعل من إقامتهم في بلاد اللجوء قسرية ودائمة، ويتسبب بالتالي بمزيد من الضغوط السياسية والاقتصادية والاجتماعية على دول اللجوء.
إذا كان من السهل إدراك دوافع النظام السوري وإيران للبحث عن حل عسكري يؤمن استعادة السيطرة على المدن والحواضر السكانية من أجل دحر الفصائل المسلحة وإنهاء الثورة لإبقاء بشار الأسد على رأس السلطة، كضمانة لاستمرار التواصل الجغرافي الحيوي للمشروع الإيراني الممتد من طهران عبر بغداد ودمشق وصولاً إلى لبنان، فإن انخراط روسيا في هذه الإستراتيجية سينعكس سلباً على مستقبل العلاقات الروسية مع المجتمع الدولي ومع الشعوب العربية.
من هنا لا بدّ من التحذير من عواقب الاستمرار في تنفيذ هذه الاندفاعة الهجومية بعد إسقاط حلب، لأن ذلك سيؤدي حتماً إلى مزيد من التعقيدات السياسية والعسكرية، بالإضافة إلى أنه سيتسبب بأخطار كبيرة تهدد مستقبل واستقرار كامل منطقة الشرق الأوسط.
تقضي الحكمة السياسية من جانب القيادة الروسية أن تستفيد من الصدمة التي أحدثها سقوط حلب لاستثمارها مع الإدارة الأميركية الجديدة للتحضير لمؤتمر جديد للسلام من أجل إنهاء الأزمة السورية.
* باحث لبناني في الشؤون الإستراتيجية
نقلا عن الحياة