على استحياء، انطلقت عبارات الشجب والإدانة العربية الرسمية لما يحدث في حلب، في وقت يشهد سكان ثاني أكبر مدينة سورية مذبحة غير مسبوقة على يد قوات النظام السوري والمليشيات الشيعية الموالية لإيران.
صحيح أن تظاهرات انطلقت في عدد من الدول العربية، لكن صوتها لم يتناه إلى مسامع الحكام الذين اكتفوا بالإدانة في أفضل الأحوال، أول التزموا الصمت، أو حتى أعلن بعضهم انتمائه لمعسكر القتلة، معتبرا أن ما يحدث في حلب عملية تطهير ينفذها "الجيش العربي السوري" (أحد محاور المقاومة والممانعة) ضد معاقل الإرهابيين.
لكن في الجوار، تعالى صوت آخر، غير متوقع في الحقيقة، أدان المذابح في الحلب، بل وطالب بتدخل عسكري لإنقاذ المصابين وفك الحصار عن المدينة، وإرسال مساعدات إنسانية. هذا الصوت، جاء وللمفارقة "بالعبري" من قلب "العدو الصهيوني" المسمى إسرائيل.
منذ بداية الهجوم على حلب تعالت أصوات الكتاب والمفكرين الإسرائيليين منددين بالجريمة التي يرتكبها الأسد ومليشيات إيران بتغطية الطيران الروسي بحق المدنيين الذي وجدوا نفسهم بين شقي الرحى.
عدوَى الإنسانية
ما لبثت عدوى الإنسانية التي أصابت دولة الاحتلال أن انتقلت للقيادة السياسية، والدينية، فانبرى قادة سياسيون إسرائيليون معروفون بتطرفهم ومواقفهم العنصرية ضد العرب في البكاء على حلب، لحق بهم – ولبالغ الدهشة- حاخامات لا يقلون عنصرية وتطرفا.
بنيامين نتنياهو رئيس الحكومة الإسرائيلية كان حاضرا في المشهد، إذ أعلن الثلاثاء 20 ديسمبر، بعد يوم واحد من انتهاء عملية إخلاء السكان من حلب في تصريحات لوسائل إعلام أجنبية ترحيب إسرائيل باستيعاب المصابين من سوريا لتلقى الرعاية الطبية في مستشفياتها.
وبحسب القناة الثانية في التلفزيون الإسرائيلي قال نتياهو :”طلبتُ إيجاد سبل لإدخال النساء والأطفال، وكذلك الرجال غير المقاتلين لتلقي العلاج في المستشفيات الإسرائيلية".
نتنياهو سلط الضوء على حقيقة ربما لم يسمع بها بنو العرب الذين يستعد بعضهم حاليا للاحتفال بعيد رأس السنة بأكبر وأغلى شجرة كريسماس في العالم بقيمة 12 مليون دولار. قال رئيس الحكومة الإسرائيلية وزعيم حزب الليكود "قدمنا الرعاية الطبية من قبل في إسرائيل لآلاف المصابين من المأساة السورية".
كلام نتنياهو جاء بعدما وصف وزير الدفاع الإسرائيلي المتطرف "أفيجدور ليبرمان" الجمعة 16 ديسمبر الرئيس السوري بشار الأسد بـ"الجزار"، مضيفا في مؤتمر مع يهود الاتحاد السوفيتي السابق من مدينة إيلات "في رأيي الشخصي الأسد جزار ذبح وقتل الناس.. من الناحية الأخلاقية لا يمكننا القبول بمثل هذه المجزرة على مرأى من العالم بأسره، وباستخدام أسلحة كيماوية".
قبل ذلك بيوم واحد تلقى نتنياهو رسالة عاجلة من الحاخام الإسرائيلي "إسحاق يوسف" كبير حاخامي اليهود الشرقيين "السفارديم" طالبه فيها بالتدخل لإنقاذ حلب. هذا الحاخام نفسه كان قد أفتى بقتل أي فلسطيني يحمل سكينا، حتى بعد إصابته وتحييده.
قال الحاخام في رسالته "إذا ما سمحتم لي، هذه في رأيي فرصة، تنطوي على إمكانية المساعدة عبر التعاون والتنسيق مع الصليب الأحمر أو المنظمات الأخرى المعنية، لتقديم المساعدات الإنسانية، والطعام والأدوية، وغيرها لأولئك اللاجيئن. لتكون هذه كلمتنا للعالم أننا بني إسرائيل المسئولين عن قدسية الدماء، لا نفرق بين دم ودم، وننظر لجميع البشر كما خلقوا على صورة الله حتى وإن كانوا أعداء".
رسالة الحاخام إسحاق يوسف لنتنياهو
حقيقة الأمر، ومنذ اندلاع الحرب الأهلية في سوريا، فتحت إسرائيل أبوابها لمئات المصابين السوريين لتلقي العلاج في مستشفياتها، وخاصة أولئك الذين يقطنون في مناطق قريبة من حدودها.
موقع "دافار 1” العبري الذي نشر رسالة الحاخام، علق على ما قاله رئيس الحكومة الإسرائيلية بالقول:”إذا ما تحققت تصريحات نتنياهو ستكون هذه سابقة، لأنه حتى الآن قدمت إسرائيل الرعاية الطبية فقط لمصابين سوريين جاءوا من الجولان السوري، والقنيطرة، ودرعا، والقرى الموجودة غرب دمشق. أما حلب فتقع شمال سوريا، على مسافة 6 ساعات سفر من الحدود الإسرائيلية".
الاهتمام الإسرائيلي بمأساة حلب، لم يتوقف عند هذه التصريحات، إذ امتلأت الصحف العبرية بمقالات لكبار الكتاب والمحللين الذين طالبوا إسرائيل "الدولة الأخلاقية" بالتدخل لإنقاذ حلب.
مهرج إسرائيلي يداعب طفل سوري بمركز طبي بإسرائيل
انتقد المقال الافتتاحي لصحيفة "هآرتس" 16 ديسمبر تحت عنوان "لن تقف مكتوفي الأيدي" التجاهل الدولي لما يحدث في حلب مضيفا :”لا يريد أحد التورط في حرب عالمية ثالثة، من أجل مدينة عربية. لا توجد أية حكومة تريد التضحية بأبناء شعبها لأجل هدف غير مدرج في بنك الأهداف الإستراتيجية. صحيح أن حلب لا تشهد حربا على داعش، لكن لدى المجتمع الدولي، وكذلك إسرائيل، خيارات أخرى".
وتابعت الصحيفة :”حرب دبلوماسية على روسيا يمكن أن تفيد، على غرار ما حدث في أعقاب الحرب بأوكرانيا، هنا يمكن أيضا لإسرائيل أن تساهم. فالدولة التي نجحت في حشد العالم ضد إيران قادرة على إثارة الرأي العام العالمي، والضغط على قادة العالم، وكذلك هذا هو الوقت للتذكير بالهولوكست. بإمكان إسرائيل وعليها تشجيع الجالية اليهودية، لاسيما في الولايات المتحدة، لاستخدام نفوذها. كذلك بإمكان نتنياهو استغلال علاقته الوطيدة بترامب".
وختمت بالقول :”على إسرائيل أن تقترح استيعاب آلاف اللاجئين السوريين، والمساهمة في الجهود الدولية لمساعدة المحاصرين. لزاما على إسرائيل نفسها التي تخنق لاجئين إرتريين وسواديين، وباسم تاريخها أن تغير الاتجاه. على الأقل، من المهم أن يتوجه رئيس الحكومة بصوته للعالم ويضم إسرائيل لكل من يرى في روسيا وسوريا مجرمي حرب".
حلب تحترق
“حلب تحترق ولا يمكننا الوقوف جانبا"، هكذا جاء مقال "جوناثان جرينبلات" رئيس رابطة مكافحة التشهير اليهودية، المنشور بصحيفة "يديعوت أحرونوت" بتاريخ 21 ديسمبر، طالب فيه اليهود في الغرب بالتحرك من أجل حلب، وألا يكرروا خطأ صمتهم على مجازر كمبوديا وسراييفو ورواندا والكونغو ودارفور، معتبرا أن اليهود سبق وذاقوا من نفس الكأس في المحارق النازية، وأيضا وقتها وقف العالم جانبا.
واستدرك الكاتب:”علينا اليوم أن نسأل أنفسنا، إلى متى يمكننا الوقوف موقف المتفرج، والسماح لنظام الأسد وحلفائه الروس والإيرانيين بأن يقتلوا ويصيبوا دون عقاب".
"لبيك يا سوريا" قالها هذه المرة جنود احتياط بجيش الاحتلال في رسالة بعثوا بها إلى رئيس الأركان الإسرائيلي، طالبوا فيها بتجنيدهم على الحدود الإسرائيلية السورية لعلاج المصابين السوريين.
الرسالة كتبها قائد سرية بإحدى الوحدات الطبية التابعة لجيش الاحتلال، ووقع عليها معظم جنود الوحدة. وبحسب موقع "المصدر" الإسرائيلي الصادر باللغة العربية جاء فيها :” نتوجه إليك لتجنيد وحدتنا في إطار أمر التجنيد الفوري لتقديم العلاج الطبي للمواطنين السوريين الجرحى..نعرف تماما الاعتبارات الأمنية والسياسية ولكن هناك أهمية للقيم والحق والأخلاق أيضا. علينا أن نطالب أنفسنا بأن نفعل ذلك باسمها".
ناشطة إسرائيلية مع لاجئين سوريين بمخيم سالونيك باليونان
ربما يُصدم القارئ العربي لدى قراءة هذه الحقائق من داخل إسرائيل، ويقف على الدعوات والجهود الإسرائيلية لعلاج المصابين واللاجئين، وممارسة جهود دبلوماسية لتجريم نظام الأسد والكرملين.
وقد تتزايد حدة الصدمة عندما نعلم أن جمعيات يهودية تنظم بالفعل حملات لجمع التبرعات لصالح مصابي ولاجئي حلب. بينها جمعية تسمى "عمل الله"، التي أعلنت حملة لجمع التبرعات في وسط تل أبيب نهاية الأسبوع الجاري تزامنا مع عيد الأنوار اليهودي، إذ تناشد الجمعية تكريس العيد للشعب السوري!.
يقول "موتي كهانا" مؤسس الجمعية التي ترسل التبرعات للشعب السوري منذ خمس سنوات: "هنالك آلاف السوريين الذين تلقوا علاجا طبيا في المستشفيات الإسرائيلية ويتلقى آلاف السوريين رزم الطعام التي نرسلها، على الرغم من أنهم طوال حياتهم علّموهم أننا نحن الشيطان"، مضيفا "أنا أولا يهودي، ومن ثم إسرائيلي أو أمريكي.. يُقتل الأطفال والنساء في سوريا يوميا، ويحظر علينا نحن اليهود، أن نسكت على ذلك".
نعم كل هذا تفعله إسرائيل، قاتلة الطفل محمد الدرة، وصاحبة مجزرة بحر البقر، وصابرا وشاتيلا ودير ياسين، وغزة وجنين و.. قائمة الإجرام الإسرائيلي تطول، لكنها الحقيقة يا عرب.. إسرائيل تبكي حلب.