يمثّل موسم الأعياد في لبنان دعوة شاملة ومفتوحة للاستهلاك من الثياب والهدايا إلى الأطعمة والمشروبات، وكلّ ما يمكن أن تحتاجه الأسرة. الحملات الإعلانية على أوجها بين المحطّات التلفزيونية، الإذاعات، المجلات واللوحات المنتشرة على الطرق، وتهدف كلّها إلى تحفيز المواطنين على الاستهلاك، بما أنّ مختلف المؤسسات والمحلات تعتمد على هذه الفترة تحديداً لتعويض الخسائر السنوية التي تتكبّدها مع ضعف القدرة الشرائية.
ولا شكّ في أنّ هذه الحركة الاستهلاكية ضرورية لدفع العجلة الاقتصادية التي تتباطئ أكثر فأكثر مع اشتداد الصعوبات المالية، لكن المبالغة والدعوة إلى «الاستهلاك الشرس» لافتتان للنظر، خصوصاً في ما يتعلّق بالفئات الأكثر تأثراً بالإعلانات بسبب عدم القدرة على التفرقة بين الحقيقة والترويج، أي الأطفال. ففترة الأعياد باتت تشكّل مأزقاً حقيقياً لأسر كثيرة ذات الدخل المحدود أو المتوسط، لأنّ طلبات الأطفال الى تزايد وفي شكل مفرط، والسلع المطلوبة لم تعد ضمن إمكانات الأهل مثل أحدث الأجهزة الإلكترونية، والتي يصرّون عليها مع تعداد كلّ مزاياها تماماً كما سمعوها في الإعلان أو من أصدقائهم الذين سبق واقتنوها. وغالباً ما يقف الأهل في حيرة من أمرهم في هذه المسألة، فهل يجب أن يؤمّنوا للطفل كلّ ما يرغب فيه أو يرفضوا ذلك، مهما عاندهم؟
القناعة كنز بات مفقوداً
هذه المسألة تُطرح في لبنان كما في بلدان عدة، حيث يتربّى الأطفال على قيم الاستهلاك المفرط فيما لا تصل لهم الرسالة الأساسية حول معنى الأعياد وأنّها ترمز إلى العطاء والاهتمام بالآخر، بل تصبح مرادفة للحصول على أفضل الهدايا التي يمكن ألا تعني لهم أكثر من ليلة العيد. وفي جولة لـ»الحياة» على مجمّعين تجاريين حيث تتبضّع أسر، لا يمكن إلا أن تلفت الانتباه أكياس ألعاب متكدسة في عربات التسوّق، خصوصاً للأسر التي تضم أكثر من طفل. غير أن هذا السلوك الاستهلاكي الذي يُقدم عليه الأهل بدفع من طفلهم يجدونه للمفارقة أمراً غير مستحبّ ومحبّذ. لكن العصر تغيّر وبالتالي يجب مجاراته ولو كان ذلك يعني أن يحصل طفل في سن الخامسة على أحدث جهاز لوحي لتنزيل الألعاب الافتراضية بقيمة 300 دولار.
فسنا، وهي أم لولدين، تقف في الـ»مول» محاولة أن تجد ما يتناسب مع ميزانيتها المحدودة، لكن طلبات طفليها لا تتوقف. فابنها الأول يريد منصّة ألعاب فيديو ثمنها 400 دولار، فيما يرغب الثاني البالغ من العمر 10 سنوات في الحصول على هاتف ذكي. وعند سؤالها عن الطريقة التي ستتبعها لتحقيق طلباتهما، لا تتردد في القول أنّ الاستدانة أمر ممكن كي يحصلا على ما يريدانه، وتضيف: «أتذكّر حين كنّا صغاراً كانت هدايانا عبارة عن لعبة صغيرة نتشاركها بسعادة مع إخوتنا، وكنّا نجمع ألعابنا القديمة التي لم نعد نرغب فيها ونقدّمها لأطفال فقراء. اليوم، بات الطفل متطلّباً والقناعة لم تعد في القاموس الأسري، وذلك يضغط على الأم والأب اللذين يعملان لساعات طويلة لتلبية طلبات أطفالهم». مناسبة تعني الهدية
إنّها «حمى الاستهلاك» كما تسمّيها الاختصاصية النفسية سارا حمدان، وتبرز خصوصاً في موسم الأعياد وتحديداً عند الفئات الأكثر تأثراً بالإعلانات التجارية مثل الأطفال بين الخامسة والعاشرة. إذ يصبح العيد مرتبطاً بالهدية وتغيب عنه القيم الأخرى مثل المحبّة والعطاء، وهي مسؤولية يتحمّلها الأهل أولاً لأنّهم يريدون تأمين مستوى حياة مرفّه لأطفالهم حتّى لو كانت إمكاناتهم محدودة، فيضعون حاجزاً بينهم وبين حقيقة المجتمع الذي يعيشون فيه. وهذه الظاهرة كما تشرح حمدان عالمية، وهناك منظمات باتت تعمل على حماية الطفولة من هذه الحمى عبر قوننة الإعلان ودراسته معمّقاً في حال كان مخصّصاً للأطفال، مع التوعية في المدارس حول أهمية مساعدة المحتاجين في هذه الفترة من السنة بدل الانكباب على تحقيق الرغبات الشخصية.
وترى حمدان أنّ الخطر الأكبر يكون باستسلام الأهل لطلبات أطفالهم، لأنّهم منشغلون عنهم أو يشعرون بالتقصير بسبب ساعات العمل الطويلة. فالخطوة الصحيحة في موسم الأعياد هي باصطحاب الطفل إلى الأماكن التي يوجد فيها أشخاص محتاجون وحمل ثياب ومؤن لهم، ما يساعده في تعلّم أهمية الإحسان بالآخرين. كما يمكن الأهل اتباع سياسة الهدية الواحدة وبميزانية محدودة، فلا يتخطونها مهما عاندهم الطفل، لأنّ الرضوخ له من أبرز الأخطاء التربوية، وذلك لا ينطبق على الهدايا فقط بل على أمور حياتية أخرى.
وفيما يغرق أطفال بالهدايا والسلع التي لا يحتاجونها غالباً في الحقيقة، هناك آخرون ينتظرون أي مساعدة في الأيام الباردة. فالطفل جان الذي يسكن في منزل صغير مع عائلته المكوّنة من 5 أفراد، يفصح لنا حين نسأله عمّا يريده في الأعياد المقبلة، أنّه وضع رسالة لبابا نويل تحت الشجرة طلب فيها سترة جديدة ليرتديها حين يذهب إلى المدرسة حيث يشعر بالبرد الشديد في الصفّ بسبب عدم توافر أي وسيلة تدفئة.
وكلّما زرنا حيّاً فقيراً لاحظنا طلبات الأطفال المتواضعة مثل حقيبة جديدة، سيارة يتحكّم بها من بُعد، تمضية يوم في مدينة الملاهي وغيرها من الأمور البسيطة التي يمكن تحقيقها في حال كان هناك تكافل اجتماعي ونظرة من الأشخاص ذوي القدرة المادية العالية أو المتوسطة إلى الفئات الأكثر حاجة، أقلّه في فترة الأعياد.
فيرونيك أبو غزاله كاتبة لبنانية